المشاركات

بوابة الانتظار

  كانت عمان بالنسبة لي كمرفأ تتوقف فيه السفن ليلاً قبل أن تبحر مجدداً نحو وجهات أكثر إثارة. ولكن مع مرور الزمن، بدأت أكتشف في عمان أوجه قلقة ومرتبكة. إذ هي صحراء، وفي وسطها تتربع تلال ترتفع بكل الاتجاهات، تعلن عن نفسها بلوحات إعلانية كثيفة تلون سماء المدينة وتغطي سواد أبنيتها. الدواوير تتمركز في فضاءاتها العامة، يستخدمها سكانها للإشارة إلى مواقعهم ووجهاتهم، دواوير تُشبه بوصلة الرحالة الذين يعتمدون على أضواء الكون التي عادة ما تصلنا متأخرةً بملايين السنين الضوئية... ضوء من الماضي يُشعل اتجاهات اليوم. ويتموج داخلها نهرًا قد دفنه الأسمنت... صحراء تتشح بالرطوبة، كأنما تستقبل اللّاجئين من كل صوب وحدب بعرقهم وهلعهم وبحثهم عن قطعة أرض يبنون عليها انتظارهم الطويل. عمان مكان تتيبس فيه الجراح المفتوحة وتنتقل إلى عوالم الصمت، ألم صامت وعابس يظهر لك بعبوس الناس في الطرقات. أتوا هؤلاء الرحالة إليها، من جبال الأرمن الغربية بعد المذبحة، ومن بغداد ونواحيها بعد أن وجه ابن الجنوب الأمريكي الأبيض أنظار الإمبراطورية نحو الذهب الأسود ونحو الجبهة الشرقية لدولة الاحتلال، ومن جنوب سوريا بعد أن التهمتها نيران

جنون ليلى!

في مقهى صغير، بجانب حديقة ضيقة وأشجار شاحبة، وجدت ليلى، حبيبتي السابقة. كانت الآن تجلس بجوار طفليها الذين يلعبون بشراسة وغضب، تاركين خلفهم أصواتاً تشبه الاحتجاج. كانوا يعترضون على القوانين التي تمنعهم من اقتطاف الورود المتناثرة في زوايا الحديقة، وعلى قلة الحركة التي يبديها الكبار. يجولون ويمرحون دون لهاث، مع أصوات النهي التي تلاحقهم.  "مرحبًا،" قلت لها، وهممت بالجلوس في زاوية المقهى، متظاهرًا بعدم اكتراثي لوجودها. يتحدث جيل اليوم بكثرة عن أهمية إغلاق الدوائر وعن الجرأة المطلوبة لمواجهة بقايا الألم مع الآخرين. يُصرخون أن الإنسان الأخلاقي هو الذي يُجيد إغلاق الدوائر. كان فارس دائمًا يقول لي: "أنا أعلم الحل! اذهب وتحدث وواجه." وكنت دومًا متشككًا في قدرة اللغة على حل العقد. لا أعلم إذا كان هناك دائرة مُغلَقة في حياتنا، فالدائرة تبدو أحيانًا كبيرة ولا تنتهي حتى بموت الجسد. إنها تنتهي فقط عندما يرفض جميع أحفادنا إنجاب المزيد منا، تنتهي فقط في تلك اللحظة التي ينقطع فيها حتى أثرك الجيني الممتد عبر الزمن، أو في تلك اللحظة التي تعود فيها جميع مخلفاتك على الأرض لتصبح غبار.  له

العيش كفاقد

  سأخبركم بقصة قصيرة جداً، عن تلك المرة التي قال لي صديقٌ أنَّه يعيش كفاقدٍ... فاقدٌ لكلِّ رغبةٍ وطموحٍ وهدفٍ، وحتى فاقدٌ لأيِّ بصيصٍ صغيرٍ من الأمل. وفعلاً، رأيتُ بجانبه شبحًا يحاول الدخول مرَّةً أخرى لجسده، يحاولُ أن يتسلَّلَ إلى عقله، يحاولُ أن يتجسَّدَ كأكثر من ذكرى، يحاولُ العودةَ كوعيٍّ. رأيتُ هذا الشبح يحاولُ أن يستدرجه نحو المشي في دروب التأكيد على الحياة مرَّةً أخرى. ولكنَّ صديقي كانَ أدهى، وأعلنَ حربًا أهليةً على نفسه. صدمني صديقي، ليس لأنَّه يراوغُ بإتقان، وليس لأنَّه يراقصُ أحلامَه ويتركُها لوحدها على خشبةٍ متهتكةٍ... خشبةٍ كانت يوماً ما مسرحًا يضجُّ بالزائرين... صدمني ليس لأنَّ التخلِّي والخسارة والتفريط مواقفٌ غريبةٌ أو مرفوضةٌ، بل العكس تمامًا، نحنُ نحتاجُ كثيرًا لتلك القدرة والقوة على التخلِّي، لتلك القدرة على أن نقولَ كفى وأن نرحلَ. لا أخافُ من الذين يتخلَّون دون أن يتاجروا، ممن يقبعون في ذلك الحيز الرمادي، ممن يعلنون بصمتهم أنَّ القضية، أي قضيتنا، خاسرةٌ، ولكنَّهم يصمتون. ولكنَّ البعض حوَّلَ التخلِّي إلى تجارةٍ. وهناك من تخلى وهاجر هذه البقعة الضيقة من كوكب الأرض ويعو

الشكوى

قبل أكثر من عام، التقيت بصديق لم أره منذ مدة. فقد تزوج وأنجب طفلة يدمن مداعبتها، وأصبح يغازل الحياة المنزلية الهادئة. تفاجأ صديقي وتلبك عندما طرح عليّ سؤالًا من الأسئلة المعتادة في الحوارات القصيرة، قال لي: "كيف حالك؟" أجبته بأنني سعيد. واستدرك نفسه قليلاً، فقد كان يشكو حال البلاد قبل أن يسألني عن أحوالي، وجلس معي على طاولة في مقهى معد جيداً للكتابة والعمل، وهمس لي: "أنا أيضاً سعيد." لمستُ حينها بأنه في بلادنا، لا يمكن للشخص أن يفصح عن سعادته على الملأ، أن يعلنها دون تردد، وأن يصرخ بها دون أن يكون احتفاءه مرتبطًا بإنجاز ما، أو بأحد المناسبات الاجتماعية التي نمنحها جميعًا مكانة هامة ومبالغ فيها. أتحدث عن تلك الإنجازات التي ترمز أيضاً لإيقاع الحياة المتوقعة منّا، تلك البنى القدرية التي تحررنا من شكوى السؤال والضياع: ولادة وتوجيهي وجامعة وزواج وأولاد وأحفاد. فحتى عندما تعلن عن سعادة ما، عليك أن تخضعها لطقوس اجتماعية، أن ترتبط بمرحلة من مراحل الحياة وتقسيماتها المعدة مسبقاً. ولكن أن تكون سعيدًا هكذا دون رزنامة معدة مسبقاً، فهذه أقرب للخطيئة في بلادنا. يكره النَّاس الشكو

صخرة ومرآة

  استيقظت لأجد أمامي صخرة ثقيلة، كنت قد خبأت تحتها الكثير من الأحلام، مثل حلمي بإتقان أربع لغات، أو القدرة على الكتابة بصوتٍ مسموع دون تلكؤ أو تردد ، دون هلع من أن يكون كل ما أكتبه رديء. تذكرت أن الذي قادني لتلك الصخرة كانت فراشة تضج بالألوان. أقنعتني حينها أن أخبئ أحلامي تحتها، وقالت لي وهي تشاكسني: "الصخرة هذه تحفظ الأسرار أكثر من رفيقٍ أقنعه المحقق أنه لوحده." أما الآن وقد كبرت قليلاً أو كثيراً، أصبحت هذه الصخرة أثقل وأكبر، تتثاءب مثلي في صباحات يوم الاثنين، وترقص مثلي عندما أختبئ من معمعة العالم وراء بابٍ صلب كان قد طعنه الجنود عدة طعنات. تتراقص الصخرة مثل سلحفاةٍ أتقنت دبكة الدلعونة، وتخجل من رقصتها مثل العروس التي تبذل الكثير من الجهد ألا تقع في حفل زفافها. صخرة تشبه كثيراً أيام الصيف الحار، تلك الأيام التي تذكرك بأنك كوب ماء متحرك، تلك التي تذكرك أن دموعك تنهمر من قدميك أيضًا. استيقظت لأجد أن الصخرة كانت تُحدث المرآة عني، تقول لها: جميعهم زائدون عن الحاجة، ولكن بالأخص هؤلاء الذين يخشون حفر ما تحتي!

القتال على شيء ما

  كل يوم، أجلس أمام جهاز الكتابة الخاص بي وأنظر إلى ما أنجزته حتى الآن من رسالة الدكتوراة. أسعى لإيجاد فكرة جديدة أو منظور مختلف، أو إعادة كتابة فكرة قديمة بأسلوب جديد. في بعض الأوقات، أشعر بأن نقص الأفكار هو العائق، وفي أوقات أخرى أشعر بأن الأفكار كثيرة جدًا، وتتدفق بشكل سريع حتى أنني أسبق نفسي في الكتابة. أحيانًا أكون كسلحفاة تائهة لا ترغب في إنهاء السباق، وأحيانًا أشعر أنني أقفز قفزات في الهواء دون أرضٍ أعود إليها أو كهفٍ أحتمي به. في الدكتوراه، عليك مواجهة أشباحك الخاصة، لا يمكنك أن تلوم العالم كثيرًا، ليس هناك "موعد تسليم صارم"، ليس هناك موعد يريحك من نفسك، نهاية تقول فيها لذاتك: "لولا هذا الموعد لكنت قد أبدعت حقًا". وفي هذا التقلب بين الكثرة والقلة، أشعر أحيانًا أنني فقدت النسق والمعنى من كل ما اكتبه. وأقول لنفسي دوماً: "اكتب، واكتب أكثر"، وأهرب للأمام. هناك الكثير من القلق عندما تقوم بمهمة طويلة الأمد مثل كتابة الدكتوراه، مثل الإحساس بأن هذا المشروع يجب أن ينتهي وأن وقته قد حان. عندما تبحث وتقابل وتقرأ وتخسر رهان الزمن مع جدولك المُسبّق، وتضع كل مشا

واشنطن

  في عمق العاصمة الكبيرة المتناثرة، حيث تظلّل أشجار الزان الأمريكي العالية شوارعها، يشعر المارّون بأنهم يسيرون فوق ارصفة كانت يومًا مسرحًا لأراض رطبة ولرقصات وألحان شعوبها الأصلية. تلك الأراضي التي عانقت أمواج نهري الباتوميك والانكاوستيا، وتشبعت بمياههما. وعندما تلامس رطوبة أيار جسدك، تشعر وكأن النهرين يتدفقان من داخلك ويخرجان كسيل من العرق. أثناء تجولي بين الشوارع المتشابكة والواسعة، وبينما يملأ صدى أصوات النهرين أذني، أتأمل تلك الزوايا الحادة والشوارع الطويلة التي تبدو كأنها لا نهاية لها. يثير تصميم المدينة تساؤلات عديدة في نفسي، فهو متقن لدرجة أنه ممل. بينما في الوقت ذاته، تظهر أمامي آثار تاريخ منسي، مليء بأحداث تبدو كأن المدينة ترغب في دفنها ونسيانها. أثناء مشيي في شوارعها، يتجه تفكيري باستمرار نحو تل أبيب، وبالتحديد إلى المنطقة التي تربطها بيافا، حيث أجد تشابهًا صادقا في البنية والتصميم. هذا التشابه يشعرني برعب، تمامًا كما في تلك اللحظات التي تظن فيها أنك استيقظت من حلم، فقط لتكتشف أنك ما زلت نائمًا، ومن ثم تستفيق فعليًا. واشنطن نسجها المهندسون بعناية فائقة، حيث يكشف كل شارع وكل م

هنا أسجل اعترافي

   هنا أسجل اعترافي هنا أسجل اعترافي، أنني لم أوقن أن الدلالة أعدّ لها أكثر من هلاك، وأن بالمدينة التي منحت أبناءها ترف العُزلة، لا مكان للشعر الذي يؤكد ببلاهة على الحياة.  هنا أسجل اعترافي، أنني خضت صراعاً طاحنا مع امرأة، وأنها أوقفت قلبي مرتين.. مرة حين غدرتنا المسافة، ومرة أخرى حين اقتربت مني حد التماثل.   وهنا أخط اعترافًا آخر، أنني لم أعد أكترث لتحول الفصول…ربيع يأتي وأخر يغادر. المسألة لم تكن أبداً بعودة المشابه والمألوف. المسألة كانت دوماً بكل صوت جديد يصدره عصفورٌ ضل طريقه وارتعب... بكل عصفور خلق من رعب الشطط أصوات تستحضر الغياب.   ......  وحين سألني المحقق من هم والداك؟  أجبته أنني آدم ابن السماء، سقطت في الهُنا والآن، لأني أردت ببساطة أن أكون إنسان. وأعترف أنني لست حجرًا، لذا حين سأل، عاندت الصمت وأجبت: ماذا تعني لك الحكاية؟ إنها قطعة مؤقّتة مقتطعة من لحم الكون. وماذا تعني لك النهاية؟ أنني لن أخوضها.. نحن لا نخوض موتنا. ماذا تعني لك البداية؟ كل ما لا أعرفه. وماذا تعني لك الأرجوحة؟ فضاء معلق بين خيارات، إناء لا يتشكل ابدا، معطل بين جانبين. وماذا يعني لك الألم؟ الألم الدلالة ال

قانون المسبح

قانون المسبح قو انينُ المسابح كثيرة، ولكثرة ما تُمليه من إرشادات، تفتقر لدهشة البحر.  أتذكر جيداً ما قالته ليَ السمراء يوماً: أحب حدود المسبح.  أحب أن وراء ما تراه أمامك من مياه، لا يتوارى المزيد من المياه.  أحب الحدّ المعلوم، وأخشى انفتاح الامتداد تجاه الغموض.  سألتُها: كم أفعى لسعت جسدكِ؟  وكم بحارٍ حاول أن يبيعك "سمكاً بالبحر"؟  أجابتني بصوت أقرب إلى أنّات النائمة: لا أريد وجع المجازفة بعد الآن! لا أريد أن أحاكم نفسي أمام مرآة الحب مرة أخرى.  البحرُ كالحب، يا صديقي، يضعك دوماً على المحك.  تدخل البحر فيقول لك: ارجع، يا بنيّ، من حيثما أتيت، عد إلى شاطئك الذهبي.  ولكننا نحن البشر نصرّ على ألّا ننصِت، بل نحب أن نتعدّى كل قانون.  البحر فوضى العنف اللا-منتهي، وإصراره المتكرر على سحبك نحو المجهول.  البحر قائد عسكري في حرب ستقسم الأرض إلى قسمين: صحراء الرمل مقابل صحراء المياه.  ولا تنسَ أنّ صحراء المياه أيضاً صحراء. البحر، يا صديقي، غدار. **** اوراق الاسكدنيا، على ضفاف البركة، تميل نحو الاصفرار،   تُدير عنقها نحو التراب الأبيض، ترابٍ قطني يطعن رتابة السماء،  تشير الأوراق ببتلاتها

حنينٌ لأب!

  حنينٌ لأب! أمشي تحت قمرٍ يتوازن فيه الحضور والغياب، قمرٍ مكتمل الألوان، قمرٍ يقبع في التنافر بين كُحلة التماثل وضياء الفروقات. وهناك تحديداً، بالمسافة التي تفصل القطبين، يكثر التطهّر والاستيلاد. أهرولُ بصحبة كرةٍ دائرية، وأحاول أن أستنطق الحال ولكنّ الكلمات، كالحمام الجالس على أسلاك الكهرباء، أحيانا ما تكون تلامساً دون تماس، وأحياناً أخرى يتداعى الوصل ويحضر التماس. وأصواتُ الصحراءِ عندنا هزّت جزرَ الاستثناء، وأصواتُ الصحراءِ تعوي في وجه الربيعِ الذي غادرها، لأجلِ كل ما كان قبل أن يرحل شتاؤها، لأجلِ كل ما كاد أن يكونَ ولم يكنْ. مأساتها أنّها، ورغم عودة المطر ما زالت تقذف نزيف السماء نحو بحر الموتى. وترفض عودةَ من غادرها، تبصقُه جرفاً وتقول: صحراءُ أنا، وصحراءَ سأبقى. وأنا معلقٌ بين سؤالين: هل انتهت "الخرافة" وتلاشى الشعراء؟! أم أنّ "الخرافة" باتت نبوءةً تستحضر الخلاص؟! **** لم يعدْ للوقت من معنى، سوى تلك المسافة، قبيْل أن تجلسَ على مقعدٍ خشبي وتطرب لإيقاع المسدس، وبعد أن ينشد جسدك المطمئن مغنّاةَ التوقِ للأبِ المعتكف، مغنّاة الحنين لأبٍ يتوارى في أزقة الخيم الاسمنت

الباب

صورة
تحت ضوءِ مصباحٍ كهربائيّ وبين الجدران الحادّة التي تخفي الأسرار، وخلف الثقبِ الذي يتلصص منه الجار، أغلقُ الباب ورائي، وأتنفس هنا أكون ما أريد أن أكون، هنا أتعرّى وأنزع الأقنعة، أنزعها سريعاً وأعدد تواليها وأبكي أنّ خلف كل قناع ...قناع. دون الأبواب لا شيء يفصل أهل البيت عن الغرباء دون الأبواب، لا شيء يفصلنا عمّن رُمي معنا على المستديرة الزرقاء، لبقينا، دون الأبواب، في جوف المغارة، وانتظرنا أن تخيط العنكبوت بابا. *** الأبواب كثر، باب تُرك مغلقاً بعد أن هجره أهل البيت، تُرك معلقاً يعارك الريح وحدَه، وينتظر عودة المتأخِر! وباب أخر لم يطاوع صفعات الجندِ، وقف مُعانداً توالي الضربات بارتداد الصوتِ: لعلَّ الفريسة تُجيد الفرار، لعلَّ الفريسة تصبح الصياد! هناك إشاعة يتناقلها المنسيون في البحر، أنّ باباً موصداً وَجد مفتاحه. غلقت أبواب أوروبا، ولم تفتح إلا بعد أن أقدم الأبيض على قتل الأبيض. وكم من باب أُوصد في وجه من قاتل لأجل أن تفتح كل الأبواب. وكم من حرٍّ صنع من الجدار باباً، ومن خطاطيفِ الأسلاك الشائكة مفاتيحاً للعصيان، الأبواب كثر، ولكن أكثرها مأساوية هو "الباب الدوار"، وأكثرها تفكر