قانون المسبح

قانون المسبح


قوانينُ المسابح كثيرة، ولكثرة ما تُمليه من إرشادات، تفتقر لدهشة البحر. أتذكر جيداً ما قالته ليَ السمراء يوماً: أحب حدود المسبح. أحب أن وراء ما تراه أمامك من مياه، لا يتوارى المزيد من المياه. أحب الحدّ المعلوم، وأخشى انفتاح الامتداد تجاه الغموض. سألتُها: كم أفعى لسعت جسدكِ؟ وكم بحارٍ حاول أن يبيعك "سمكاً بالبحر"؟ 

أجابتني بصوت أقرب إلى أنّات النائمة:لا أريد وجع المجازفة بعد الآن! لا أريد أن أحاكم نفسي أمام مرآة الحب مرة أخرى. البحرُ كالحب، يا صديقي، يضعك دوماً على المحك. تدخل البحر فيقول لك: ارجع، يا بنيّ، من حيثما أتيت، عد إلى شاطئك الذهبي. ولكننا نحن البشر نصرّ على ألّا ننصِت، بل نحب أن نتعدّى كل قانون. البحر فوضى العنف اللا-منتهي، وإصراره المتكرر على سحبك نحو المجهول. البحر قائد عسكري في حرب ستقسم الأرض إلى قسمين: صحراء الرمل مقابل صحراء المياه. ولا تنسَ أنّ صحراء المياه أيضاً صحراء. البحر، يا صديقي، غدار.

****

اوراق الاسكدنيا، على ضفاف البركة، تميل نحو الاصفرار،  تُدير عنقها نحو التراب الأبيض، ترابٍ قطني يطعن رتابة السماء، تشير الأوراق ببتلاتها إلى عائلة من ثلاثة: الأب فيها حائر، ينظر إلى سيجارته ويتأمل احتراق الوقت. مأساته أنه يغار على ابنته أكثر من أمها. ويبحث في اندفاع الهائم، عن تلك البدايات المليئة بالشبقِ والجنون، ولكنه حائر وعالق. يخجل من ابنته إن خان وعد الأبدية مع أمها، ويخجل من ميعاده مع الموت إن بقي عالقاً. 

يسبح هروباً من الأم نحو ابنته، ويعود، ويكرر الحركة بين الحدّيْن، هكذا دون نهاية. ويقول لنفسه: العائلة ثلاث ضفاف ضيقات، وأنا أريد المزيد! 

***

بالأفق البعيد بحرٌ يحمل نرسيس على كتفيه، بحر عبوس بعد أن ابتلع الطفل. ابتلعه دون أن يستأذن أهله، هكذا قرر لوحده، دون حتى أن يشاور السماء، دون أن يرد لها جميل العشرة. يقول البحر وهو يستعد لاستقبال صباح جديد: أنا المدى، وأنا الغموض، وأنا مرآة الزرقةِ، وأنا ربّ تبدل دورة الفصول. أنا خريف الشعراء، وحقيقة اخضرار ربيعكم المقبل. أنا سر هجرة العصافير وبحثها عن الملاذ شمالاً وجنوباً.. هكذا دواليك، تكرار يجر تكراراً. أنا قطرة واحدة فقط، وأنا كل القطرات أيضاً. أنا "أكثرية" ما حولكم من فضاء.  لم يصدر البحر ذلك اليوم أي أصوات، لا رجيفَ، ولا هديرَ، ولا حتى تلاطم. 

ابتلع البحر الطفل بصمت، وكأنما أدرك أنه قد أخطأ الظن. ظن البحر كعادته، أنْ هكذا لن يضلّ الطفل مساره بعد أن تُرك لمصيره، هكذا لن يترك الأهل أطفالهم، في زمانٍ ما، وهم يهربون على عجل. هكذا لن يتحول الطفل إلى جنديٍ يلقَّب "دوڤ"!

***

كل عام تحط الطيور على وجه البحيرة، وتغني لكل الغرقى  ترمي الكلام كالحجارة في قلب البحيرة، وتصدح:

أفيقوا فقد حان وقت المراثي!

أفيقوا فقد حان الزمن الصفر!

افيقوا فقد حان موعد الثأر!

وكل عام تغادر الطيور خائبة، تغادر دون أن تُدرك أنّ الموتى يحبون موتهم! ترحل الطيور دون أن تدرك أنّ الغرقى بالحب لا يشاؤون سوى دوام الغرقِ. وفعلا اصعب الحب هو افتراق الاحبة، ولقائهم بعد الافتراق على شواطئ الغرباء. 

وكل عام ترقد الطيور على شرفةٍ صغيرة في وسط المدينة وتبكي الموتى بين الأحياء. وهكذا دواليك، تكرار يجر تكراراً.  وأنشودة الحب لا يهواها سوى الغرقى! وأنشودة الموت لا يسمعها سوى الأحياء!

***

قوانين المسابح كثيرة، وأنا لا أميز بين قانون وقانون.

في البحر قانون واحد: لا تبتعد عن الشاطئ كثيرا!  

أو لربما قانونين: 

لا تبتعد عن الشاطئ كثيراً، ولا تثق بالعمق.

قوانين المسابح كثيرة وأنا جاهل بالإشارات، جاهل بلغة "المساحات الآمنة"، تلك العلامات المكررة، تلك الكلمات التي لا تغيب حتى تحضر مرة أخرى بمظهر جديد. أنا جاهل بانطواء الناس خلف البيوت الخائفة والمرتجفة، خلف الصداقات المملة، خلف العشرة والعشيرة. خلف كل دائرة من دوائر الخوف.

أحب الهدوء مثلكِ يا سلمى، أحب الرتابة والتكرار الذي يجر التكرار، ولكننى لستُ أعمى، أريد أن أخيط لثاماً حول البحر، وأن استدرجه لإلقاء الحجارة معنا على البرُج الذي يحدّ المخيم. 

كلّنا أتينا بالصدفة، ولكن كلّنا أيضاً ضرورة. نحن صدفة مرمية قرب تفاحة سقطت على رأس الجبل وأوجعته. نحن شجرة مجنونة قررت أن تلتهم أطراف المبنى. كلنا كارثة، وكلنا أيضا دعابة، وبينهما بوابة تنفتح على هاوية لا نهاية لها. افتحي عينيكِ يا سلمى، افتحيهما وانظري، رغم قوانين المسبح المريحة، ورغم التكرار الذي يجر التكرار:

نحن ما زلنا في قلب العاصفة!


الأكثر قراءة

"صوتك بنعس"

هنا أسجل اعترافي

سؤال الأحياء