جنون ليلى!

في مقهى صغير، بجانب حديقة ضيقة وأشجار شاحبة، وجدت ليلى، حبيبتي السابقة. كانت الآن تجلس بجوار طفليها الذين يلعبون بشراسة وغضب، تاركين خلفهم أصواتاً تشبه الاحتجاج. كانوا يعترضون على القوانين التي تمنعهم من اقتطاف الورود المتناثرة في زوايا الحديقة، وعلى قلة الحركة التي يبديها الكبار. يجولون ويمرحون دون لهاث، مع أصوات النهي التي تلاحقهم. 

"مرحبًا،" قلت لها، وهممت بالجلوس في زاوية المقهى، متظاهرًا بعدم اكتراثي لوجودها.

يتحدث جيل اليوم بكثرة عن أهمية إغلاق الدوائر وعن الجرأة المطلوبة لمواجهة بقايا الألم مع الآخرين. يُصرخون أن الإنسان الأخلاقي هو الذي يُجيد إغلاق الدوائر. كان فارس دائمًا يقول لي: "أنا أعلم الحل! اذهب وتحدث وواجه." وكنت دومًا متشككًا في قدرة اللغة على حل العقد.

لا أعلم إذا كان هناك دائرة مُغلَقة في حياتنا، فالدائرة تبدو أحيانًا كبيرة ولا تنتهي حتى بموت الجسد. إنها تنتهي فقط عندما يرفض جميع أحفادنا إنجاب المزيد منا، تنتهي فقط في تلك اللحظة التي ينقطع فيها حتى أثرك الجيني الممتد عبر الزمن، أو في تلك اللحظة التي تعود فيها جميع مخلفاتك على الأرض لتصبح غبار. 

لهذا تظل دوائرنا دائماً مفتوحة ومتشعبة، وتُرسَم بسرعة. أراها كخطوط تتقاطع أحيانًا، وتتشعب وتحفر أفقيًا ثم عاموديًا، دون إمكانية لعودة الخط إلى نقطة بدايته. أليس هذا ما تفترضه إغلاق الدائرة، أي العودة للبداية؟

يمتلك صديقي أحمد نظرية تقول إن الشعور الأولي الذي يحدد من نحب أو نكره يأتي كنتيجة لهذه القوة الجينية الممتدة عبر الزمن. يعتقد أننا نميز بين الصالح والطالح لأنه في زمن مضى كان جد فلان أو جدة فلانة خبيثين وشريرين في قصص أجدادنا.

لا أعلم إذا كان أحمد محقًا، لأنه يقضي وقته كارهًا للجميع ومُنزعجًا من إنجازات الآخرين. في جعبته ما يقول عن كل إنسان، حكمًا يلقيه سريعًا ويُؤكد عليه دومًا دون أي شك، ودون أن يشعر بالحاجة لتأجيل الأحكام قليلًا.

-------

تتحدث ليلى بلغة تشبه حفلات الصخب، وأكثر ما يثير اهتمامها في العالم هو علاقة الألوان بالأشكال. لم تكن مفتونة باللغة، ولا بقوة الكلمات. كانت ترفض سماع القصائد إلا إذا رافقها لحن أو مقطوعة موسيقية، وذلك فقط أحيانًا. مزاجها يميل إلى كل ما هو مرئي، العين هي الحاسة الأقوى التي تُتقنها. حتى علاقتها بالطعام لا ترتبط بالمذاق بقدر ما ترتبط بجماليات تقديم الأطباق.

تستمتع ليلى بتناسق الوجوه التي تراها، والنحتات العالية والطويلة للجسد، وتحب مشاهدة الغروب كل يوم دون أن يُشعرها ذلك بالملل. وأحيانًا تتلصص على حركة الناس ذهابًا وإيابًا في شوارع رام الله الضيقة، وتهتم كثيرًا بالتفاصيل التي لا أُلتفت إليها.

ترى صبية ترتدي فستانًا ربيعيًا يحتوي على نقوش صغيرة تحمل ما يشابه الزهور، لكنها دومًا ما تلاحظ تلك النقشة الغير مكتملة وتشير إليها سريعًا. تنتشي بأنها وجدت الخلل. أحيانًا كنت أشعر أني أعيش مع ناقدة فنية حدِقة تبحث عن الخراب.

أتذكر أن الكلمات بيننا كانت دائمًا شحيحة وثقيلة، رغم أنني أذكر أن صمتنا معًا كان ممتعًا أكثر، خصوصًا صمت تبادل القبل.

أصعب لحظات الحب لا تكمن في لحظات الانفصال الأولى، بل تأتي في لحظة لاحقة، عندما يتحول من كان أقرب الناس إليك إلى شخص غريب وبعيد. تلك الغرابة المألوفة التي يمكن لها استدعاء صدى صوت الحنين، أو يمكن لها دعوة الألم، هي ذاتها التي يمكن لها الإشارة إلى المجازفات والمغامرات الحمقاء. تظهر لك ككذب، وكخسارة، وكندم، وأحيانًا كحسرة. تلك الغرابة المألوفة المعلقة كمرآة منسية لم تعد ترغب في رؤية نفسك من خلالها، هذه الغرابة الحقيرة التي تلقي نفسها عليك كدرس.

وددت لو قلت لك ما تبقى عندي من كلام. رغم أنه لم يعد كلامي كثيرًا كما كان في السابق، لم يعد ينطلق بحرقة حين كنت استجديكِ ألا تختبري صبري. 

أريدُ أن أقول لكِ أني كنتُ أحتاجكِ في ذلك اليوم الذي قررتِ فيه أن تشربي قهوة مع صديقة لم تكترث لكِ حقًا. أتذكرين ما قلتِ لها عني، "أنكِ تكرهين شعوركِ بالهلع حولي". لم أدرك حينها أن الحب قادر على إخراج الكثير من العنف أيضًا. أجدكِ أحيانًا تصيحين في وجهي عندما تنتهي القُبلات، أو تتفادين رؤيتي وتراوغين وتتمردين، وكأني شيءٌ يُسلبكِ الشعور الذي كنتِ تحبينه حقًا، ذلك الشعور بأنكِ سيدةٌ نفسكِ، وأنكِ لا تدينين لأحدٍ بشيء. تحبين عاداتكِ، كنومكِ على جانبكِ، أو جلوسكِ بالزوايا، والسيجارة التي لا تفارقكِ، تحبين أنكِ في تمام الساعة الخامسة تذهبين لشاطئ جبلي وتنظرين بتمعن لاختلاف ألوان السماء.

كنتُ أحتاجكِ عندما ارتطم رأسي بلافتة على ناصية الشارع بسبب طول قامتي. احتجتُ ليديكِ حتى لا أصرخ أمام المارة، فالرجال لا يصرخون أوجاعهم إلا بإيماءات اليدين وبعنف الجسد.

أتذكرين عندما أقنعتكِ بزيارة عائلتي لنبدأ مسار الارتباط، ولكنكِ في النهاية رفضتِ. أو تلك المرة التي قررتِ فيها السفر لوحدكِ لأنكِ تحتاجين المسافات. أو تلك الحادثة التي أخبرتُكِ عنها، التي حصلت في طفولتي، وهممتُ بالبكاء... لم تهتمي كثيرًا حينها.

أتذكرين عندما شاركتُكِ رغبتي في شراء دراجة نارية، لم يكن لدي الكثير من الأموال حينها. كنتُ نوعًا ما أعيش فقر الأغنياء. أردتُ معكِ بيتًا وطفلًا ومستقبلًا. هكذا أنا، أرى الكامن تمامًا كما كنتِ ترين الخراب.

أردتُ اختبار اختراق كل الحدود، تمامًا مثل أطفالكِ الذين يحتجون على رتابة الفضاء وتقسيماته التي تفرض الجلوس دائماً. هكذا هي المقاهي، مجالس باهظة الثمن، وأنا مثل أطفالك أحب مشاعات الشطط.

لم أعلم حينها لماذا كنتِ تكرهين حبكِ لي! تداركتُ القصة لي لاحقًا، قصتكِ يا ليلى.

الحب يعميكِ وأنتِ تستمتعين بإيجاد الخراب، تستمتعين بالنقشة الغير مكتملة، باللون الخارج عن النسق. تستمتعين برتابة العادات والأيام وبقدرتك على كشف "الكابوس" القادم. مزاجك كمزاج الآخرين اليوم، كوابيس معلقة فوق مخيلة تفتقر لرؤية الكامن والحالم. وحبنا هكذا اليوم، حب يتجاوز وفاء القبلة الأولى، يحتج على الوقوع في الحب. حب يشاء الهوة.   

لن أخبركِ عن اكتشافي هذا، سأعود أحيانًا لقُبلنا، وفقط أحيانًا. سأترككِ يا ليلى لوحدكِ، فيبدو أنكِ وجدتِ ما يكفي من الحب الذي لا يعمي. ذلك الحب المريح الذي لا يُخرج الجنون. هكذا نحن اليوم نحب بشرط أن نرى الخراب أولا. 


الأكثر قراءة

"صوتك بنعس"

هنا أسجل اعترافي

سؤال الأحياء