واشنطن
في عمق العاصمة الكبيرة المتناثرة، حيث تظلّل أشجار الزان الأمريكي العالية شوارعها، يشعر المارّون بأنهم يسيرون فوق ارصفة كانت يومًا مسرحًا لأراض رطبة ولرقصات وألحان شعوبها الأصلية. تلك الأراضي التي عانقت أمواج نهري الباتوميك والانكاوستيا، وتشبعت بمياههما. وعندما تلامس رطوبة أيار جسدك، تشعر وكأن النهرين يتدفقان من داخلك ويخرجان كسيل من العرق.
أثناء تجولي بين الشوارع المتشابكة والواسعة، وبينما يملأ صدى أصوات النهرين أذني، أتأمل تلك الزوايا الحادة والشوارع الطويلة التي تبدو كأنها لا نهاية لها. يثير تصميم المدينة تساؤلات عديدة في نفسي، فهو متقن لدرجة أنه ممل. بينما في الوقت ذاته، تظهر أمامي آثار تاريخ منسي، مليء بأحداث تبدو كأن المدينة ترغب في دفنها ونسيانها. أثناء مشيي في شوارعها، يتجه تفكيري باستمرار نحو تل أبيب، وبالتحديد إلى المنطقة التي تربطها بيافا، حيث أجد تشابهًا صادقا في البنية والتصميم. هذا التشابه يشعرني برعب، تمامًا كما في تلك اللحظات التي تظن فيها أنك استيقظت من حلم، فقط لتكتشف أنك ما زلت نائمًا، ومن ثم تستفيق فعليًا.
واشنطن نسجها المهندسون بعناية فائقة، حيث يكشف كل شارع وكل منزل وكل محطة مترو أنه جزء من رؤية شاملة. هدف المهندسون البيض كان واضحًا: إعطاء المدينة صفة فريدة، تجعلها تبرز وتتميز عن مدن عظمى أخرى مثل لندن ووارسو وستوكهولم وباريس وأمستردام. وبينما تسير في الشوارع، يغمرك إحساس بأنك داخل متاهة ذكية أو لعبة فيديو معقدة، حيث كلما ظننت أنك قد وصلت إلى نهاية الطريق، تجد أمامك مسار جديد، وكأنك في تحدي دائم لتجد نهاية الطريق. واشنطن تريد أن تقول لك أنها لم تبنى على عجل، ولكنها أيضا تقول لك أنه خطط لها جيداً.
تعكس هذه الشوارع الروح الأمريكية، التي تترسم بحقيقة كونها مكان يحتفي بكل شيء كبير، حيث الولائم الضخمة، والسيارات العملاقة، ومحلات بيع الملابس للكبار حجما، والحمامات التي تملؤها المياه حتى حافتها. تدرك حينها أنك أمام إرث مهاجرين عبروا البحار، وأرادوا تكبير كل شيء كان صغير في ريف أوروبا الإقطاعي. أرادو أن يبهروك بالضخامة والحجم، وبالامتدادات التي ترهق أي جسد بشري. كل شيء كبير في واشنطن وبالأخص ايغو سكانها.
في لقاءاتك مع الكينونات الأخرى في واشنطن، تسبق الأسئلة حول مهنتك تلك المتعلقة باسمك. الانتهازية صفة لا تخجل من نفسها هناك. لم يعد الإنسان ملزمًا بأن يخفي سعيه وراء أهداف مهنية أو يتظاهر بأن الآخرين ليسوا مجرد وسائل لتحقيق مصالحه. واشنطن، بمعالمها وأزقتها وناسها، تبدو كتمثيلية ميكانيكية تفتقر لأي مشاعر. اللغة هنا يتم تداولها ولكن دون صراخ أو غضب أو حب أو خيبة إلا في لحظات قليلة عندما تقدم أطباق الانتقام السياسي المعدة جيداً للخصوم، ولكن تبقى الأطباق باردة. المدينة، حتى حين تصرخ، تبدو وكأن صراخها مصطنع وله هدف أو غاية، الا عندما يأتي الصراخ من متفرج أو مشجع لا يؤثر كثيراً على صيرورتها، صراخ يأتي من الأحياء التي تتمركز وسطها ولكن تبقى خارجها، مصدرها أحياء العمال والفقراء من ذوي البشرة الداكنة والسوداء. في واشنطن تشعر كأنك في إحدى حلقات الكابول نيوز (البرامج الاخبارية) حيث السياسة تصبح ترفيهًا مبتذلًا. بالتأكيد، واشنطن لا تصرخ كما نصرخ نحن، صراخنا مليء بالغضب والنقمة والحقد على العالم حتى عندما نصرخ في وجه بعضنا.
لا مكان هناك للصداقات الدائمة، فصديق اليوم قد يصبح عدو الغد. ولا مكان فيها للزواج الكاثوليكي والحب الأبدي المخلص. يتم استهلاك المرأة هناك سريعًا كقطعة من فطيرة ليمون مُحلاة. الجميع هناك يستمتعون بكسر قوانين الحب، والجميع يشعر بالأسى لزوال الحب. لربما من هذه الناحية، لا تختلف واشنطن عن بلادنا. ولكن هناك حب واحد كبير في واشنطن، وهو حب الأنا العليا والسلطة. تسعى واشنطن لتجريد الإنسان من كل ما يحب أو قد يحب، ليصبح خادمًا أمينًا للإمبراطورية. واشنطن كأخطبوط يطوف بك في وسط محيط واسع وهادئ، يشبه حاملات الطائرات الشاهقة. قد تظن للحظة أنك سيد المياه، غافلًا عن حقيقة أن هذا الأخطبوط هو الذي يرقص بك حسب إيقاعه.
تسألني الناس دومًا: لمَ لم تهاجر حين كنت هناك؟ لمَ عدت إلى بلادٍ يجد فيها الألم طريقه نحوك دون خجل ودون أن يمنحك وقتا مستقطعا، ألمٌ لا يغيب عن طرق وشوارع مدننا، ويفصح عن نفسه بعنف اللغة بيننا. وكانت إجابتي دائمًا بسيطة: من أجل أن أتمتع بعائلتي قبل افتراقنا، وأعيش مأساتنا بكل صنوفها، واعيشها بالهنا والآن بينكم، ولكيلا أصير مستعمرًا، أو خادماً، وكي أصرخ وأحب وأحقد وأعيش القلق كله بصدق. وببساطة أكثر حتى يسألني الناس عن اسمي أولا وعن اسم عائلتي ثانيا.