كل يوم، أجلس أمام جهاز الكتابة الخاص بي وأنظر إلى ما أنجزته حتى الآن من رسالة الدكتوراة. أسعى لإيجاد فكرة جديدة أو منظور مختلف، أو إعادة كتابة فكرة قديمة بأسلوب جديد. في بعض الأوقات، أشعر بأن نقص الأفكار هو العائق، وفي أوقات أخرى أشعر بأن الأفكار كثيرة جدًا، وتتدفق بشكل سريع حتى أنني أسبق نفسي في الكتابة. أحيانًا أكون كسلحفاة تائهة لا ترغب في إنهاء السباق، وأحيانًا أشعر أنني أقفز قفزات في الهواء دون أرضٍ أعود إليها أو كهفٍ أحتمي به. في الدكتوراه، عليك مواجهة أشباحك الخاصة، لا يمكنك أن تلوم العالم كثيرًا، ليس هناك "موعد تسليم صارم"، ليس هناك موعد يريحك من نفسك، نهاية تقول فيها لذاتك: "لولا هذا الموعد لكنت قد أبدعت حقًا". وفي هذا التقلب بين الكثرة والقلة، أشعر أحيانًا أنني فقدت النسق والمعنى من كل ما اكتبه. وأقول لنفسي دوماً: "اكتب، واكتب أكثر"، وأهرب للأمام.
هناك الكثير من القلق عندما تقوم بمهمة طويلة الأمد مثل كتابة الدكتوراه، مثل الإحساس بأن هذا المشروع يجب أن ينتهي وأن وقته قد حان. عندما تبحث وتقابل وتقرأ وتخسر رهان الزمن مع جدولك المُسبّق، وتضع كل مشارب البحث أمامك، ومن ثم تنسج الكثير من اللغة حول هذا البناء، يعني ذلك أيضًا مواجهة حدود إمكاناتك الفكرية والبحثية. يعني أن تجد نفسك دوماً أمام حائط وتسعى لدفعه قليلًا. وأكثر ما أكره هو أن أعيد قراءة ما كتبته مرة تلو الأخرى. ورغم ذلك، أكثر ما يجعلني أكتب هو هذه القراءة المتكررة. هناك عنف هائل في قراءة كتابتنا وإعادة قراءتها، ولكنه عنف ضروري. أحيانًا أنظر للنص الذي أخذني بعيدًا عن الأصدقاء والأحبة، كطفل صغير يحاول أن ينبثق ويتشكل، أجده يخطئ كثيرًا، وأجده يصارع نفسه كثيرًا، وأحيانًا يخوض تجارب كان الأجدر به ألا يخوضها. أجدني أخوض معه تلقي لكمات وكفوف كثيرة ومتتابعة. وفي كل مرة أقرأ فيها إحدى الفقرات أو الصفحات، أراها أمامي تضحك في وجهي وتقول لي: "لم تكتب ما يكفي، لم تكتب بوضوح، تشتت مرة أخرى."
أصعب ما في كتابة نص أو مشروع بحثي طويل الأمد هو أنك تواجه التحديات بمفردك، وأنك تستيقظ وسط وحل من الأفكار المبعثرة بمفردك، وأن تدرك أن العالم الخارجي ينظر إلى جلستك في المقهى أو في المنزل على أنها دلالة قاطعة أنك لا تقوم بأي شيء ملموس.
طبعًا، هناك بعض الأصدقاء الذين يخوضون صراعًا خاصًا بهم. هم قريبون مني، وأجد أننا دائمًا نتحدث عن صراعنا مع الكتابة، وليس عن مواضيع البحث التي نعمل عليها. يبدو لي وكأننا في رحلة موازية، نمضي فيها على متن قوارب صغيرة وسط بحر عميق وهائج. هذا البحر، بغض النظر عن جودة وكثرة ما نكتب، يذكرنا أننا مجرد "نقاط زرقاء" غير مرئية من بعيد. قواربٌ صغيرةٌ يصعب على طواقم الإنقاذ العثور عليها. نتساءل مع بعضنا البعض: "هل سيقرأ أحدهم ما كتبنا؟" ونتشارك مخاوفنا من أننا قد نكون مزيفين. نتحدث عن هواجسنا من أن كل الأفكار قد تكون قد كتبت من قبل.
ومع كل هذه الهواجس والتساؤلات، أكثر ما هو متعب أن وحدتك ليست توحد، ففيها تواصل عميق مع العالم حولك، فأنت ملقى بين كونك لوحدك وبين تواصلك المستمر. ترى أحيانًا ما لا يراه الآخرون، وتسمع أبعد مما يقوله الآخرون، وعندما تفكك شيفرة ما، تشعر للحظة بالنشوة. الكتابة فيها الكثير من الوحدة لكنها ليست اعتزال او انعزال، فهي كالحفر تحت الأرض، لإيجاد ما تخبئه الاسطح الكثيرة من حولك، ولتعيد معايرة مزاج العالم والناس حولك، هي عملية تعيد تشكيلك أنت.
بحثي يتناول الكيفية التي قرأنا ونقرأ فيها حقبة الانتفاضات. في الماضي القريب استعاد أحد الأساتذة رؤيته الساخرة لما حصل لنا منذ الانتفاضة الأولى، وقال: "أذكر حينما هربت من الجنود وهم يطلقون النار قبل ثلاثين عامًا، وختم: كنت حينها ساذجًا، كنت أظن أننا نقاتل على شيء ما." وقال: "لو استطعت العودة في الزمن لما هربت، ولما حملت المنشورات الحزبية."
كل ما أريده هو استعادة تلك اللحظة التي ظننا فيها أننا نقاتل على شيء ما، لعلنا وعسى ألا نقرأ التاريخ من نقاط نهايته المفتعلة، لأننا نعتقد أن هكذا نكون أوفياء لذكائنا الفذ برؤية الواقع كحائط لا يتحرك. علينا قراءة التاريخ بحق، ولكن الأهم من ذلك، أن نستحضر تلك اللحظة التي قاتلنا فيها على ما رأيناه ممكنًا، ولأن كل لحظة تطرح العديد من الإمكانيات، فقد نكون اذكياء جداً، وواقعين جداً لدرجة أن ذكاءنا يصبح العقبة أمام رؤية الممكن. كنت دوما ارى ان صراعنا السياسي يتمثل بأن نترك ذكاءنا جانبا حتى ندفع الحائط قليلا!