هنا أسجل اعترافي
هنا أسجل اعترافي
هنا أسجل اعترافي، أنني لم أوقن أن الدلالة أعدّ لها أكثر من هلاك، وأن بالمدينة التي منحت أبناءها ترف العُزلة، لا مكان للشعر الذي يؤكد ببلاهة على الحياة.
هنا أسجل اعترافي، أنني خضت صراعاً طاحنا مع امرأة، وأنها أوقفت قلبي مرتين.. مرة حين غدرتنا المسافة، ومرة أخرى حين اقتربت مني حد التماثل.
وهنا أخط اعترافًا آخر، أنني لم أعد أكترث لتحول الفصول…ربيع يأتي وأخر يغادر. المسألة لم تكن أبداً بعودة المشابه والمألوف. المسألة كانت دوماً بكل صوت جديد يصدره عصفورٌ ضل طريقه وارتعب... بكل عصفور خلق من رعب الشطط أصوات تستحضر الغياب.
......
وحين سألني المحقق من هم والداك؟
أجبته أنني آدم ابن السماء، سقطت في الهُنا والآن، لأني أردت ببساطة أن أكون إنسان.
وأعترف أنني لست حجرًا، لذا حين سأل، عاندت الصمت وأجبت:
ماذا تعني لك الحكاية؟ إنها قطعة مؤقّتة مقتطعة من لحم الكون. وماذا تعني لك النهاية؟ أنني لن أخوضها.. نحن لا نخوض موتنا. ماذا تعني لك البداية؟ كل ما لا أعرفه. وماذا تعني لك الأرجوحة؟ فضاء معلق بين خيارات، إناء لا يتشكل ابدا، معطل بين جانبين. وماذا يعني لك الألم؟ الألم الدلالة الأولى على أني أنا.... وماذا يعني لك السجن؟ إطار ضيق، وآخر خارجه أضيق! بالسجن أنت تدرك أنك بالسجن.
ومن أنا لك؟ أنت انبثاق شكلي القادم، وأنت إرهاقي لنفسي بفوضى الكلام، وإرهاقي لك بلزوم الصمت. أنت انقطاع الوصل وحضوره كخديعة بعد تتالي الصمت. أنت جدلية الصمت والصوت... ورغبتي بتجاوز الرعب، وباختراق كل حد.
أنت:
أن أقف أمام مرآة تُدير ظهرها لي، وأن اقتلع عيني من وقَّبها، وأن أرجعها موجها البؤبؤ نحو الخرافة والخيال.
.......
أنا ابن متاهة بلا مخارج، متاهة جميع نوافذها تحيل إلى الفراغ.
أنا ابن متاهة معلقة بين دودة تحفر كهفًا بعمق التراب، وغيمة اتسخت البارحة بالغبار. أنا صغير جدًا، صغير حتى قبل الصفر بقليل... لهذا أستحضر الأبدية بعد كل صدام على تخوم الحد، لعلني هناك أركل الانفتاح نحو شجرة الخروب التي تتراقص على رأس جبل يبكي ليلا على غياب خطوات العرب.. لعلني هناك أركل الانفتاح نحو نهايته اللامتناهية، نحو أبدية أمده المتكرر.
…
أنا اعترافي لنفسي أني خفت حين انشطرت رصاصة بقدمي، وأني عدت أدراجي مغلقًا أبواب العزلة من خلفي، تساءلت حينها: لماذا هذا الاندفاع للتمسك بالمتاهة؟
هذا الاندفاع لرفض حقيقة فقدان الاتجاه.
.....
أخاف يا ربي، أخاف على مديات الحزنِ الآتي، وعلى خوف يمنع الحزن من التحوّل إلى غضب. أخاف يا ربي، على قلب صديقة سألتني: أهناك أمل؟ وقلت لها: الأمل يسقط على قدميه من نوافذ البؤس.
وحين انغلقت المتاهة، لم أعصر من انغلاقها زيتاً... حين انغلقت المتاهة، لم أصبح حجرًا معتدًا بصمته... حين انغلقت المتاهة: اختنقت.
فكيف تقاتل السماء والطيور تسلحت بقذائف الموت الذكي، وكيف تقاتل سكون الجسد وهو ينهش نفسه بنفسه...سكون يخبئ حرب المناعة على ملكوتها، وحرب ما تبقى من هياكل الجسد على لحمها.
وكيف وكيف وكيف!
كيف تحصن رأسك من مديات المقصلة، ومن رجال الإعدام المختبئين وراء أقنعة الوطن الآتي،
وبعد أن أعلنوا وهم يمازحون الخليقة أنه باسم الوطن ستُسحق أنت بالغد.
......
لم تتردد الذرة بعد أن اقتنعت بضرورة اصطدامها،
وحين حولت الصفر إلى مسافة، حضرت الكتلة...
ذرة اقتنعت أنها أكثر من ذرة،
فعلت كل ذلك وهذا، وخاضت إضرابها عن الوقت. ومن ثم قَتلت وقُتِلت.
ذرة هي البداية، ذرة خلقت من العقبة عتبة،
وناورت ورقصت وانقضت ورحلت، ذرة هي حركة الاحتمالات، معلقة في وسط شمعة تحترق من جانبيها.
وأنا ما زلت معلقا على الارجوحة،
بداخل متاهة،
أحاول إيجاد منفذ لا يؤدي إلى الفراغ.