الشكوى

قبل أكثر من عام، التقيت بصديق لم أره منذ مدة. فقد تزوج وأنجب طفلة يدمن مداعبتها، وأصبح يغازل الحياة المنزلية الهادئة. تفاجأ صديقي وتلبك عندما طرح عليّ سؤالًا من الأسئلة المعتادة في الحوارات القصيرة، قال لي: "كيف حالك؟" أجبته بأنني سعيد. واستدرك نفسه قليلاً، فقد كان يشكو حال البلاد قبل أن يسألني عن أحوالي، وجلس معي على طاولة في مقهى معد جيداً للكتابة والعمل، وهمس لي: "أنا أيضاً سعيد."
لمستُ حينها بأنه في بلادنا، لا يمكن للشخص أن يفصح عن سعادته على الملأ، أن يعلنها دون تردد، وأن يصرخ بها دون أن يكون احتفاءه مرتبطًا بإنجاز ما، أو بأحد المناسبات الاجتماعية التي نمنحها جميعًا مكانة هامة ومبالغ فيها. أتحدث عن تلك الإنجازات التي ترمز أيضاً لإيقاع الحياة المتوقعة منّا، تلك البنى القدرية التي تحررنا من شكوى السؤال والضياع: ولادة وتوجيهي وجامعة وزواج وأولاد وأحفاد. فحتى عندما تعلن عن سعادة ما، عليك أن تخضعها لطقوس اجتماعية، أن ترتبط بمرحلة من مراحل الحياة وتقسيماتها المعدة مسبقاً. ولكن أن تكون سعيدًا هكذا دون رزنامة معدة مسبقاً، فهذه أقرب للخطيئة في بلادنا.
يكره النَّاس الشكوى، ويكرهون سماعَ التَّذمُّر، ويتذمَّرُون من المتذمِّرِينَ. أتذكَّر كم كُنَّا نَبغضُ الذِي يَشكُونَا لعريف الصَّف، أَو ذَلِك الذِي يَعود باكيًا شكواهُ إلى والديهِ. ولكنَّا اعتدنا الشَّكوى، حتَّى نسينا أنَّنا أَحيانًا نفرحُ، وأَنَّ في الأَلَم الكثير من المتعةً أيضًا.
سأنزع النص من منطقه قليلاً أو كثيرًا، أو لن أنزعه، اترك الحكم عندكم، لأني كنت اشكو لكم من أن السعادة عليها أن تهمس همسًا في بلادنا، كنت اشكو من قلة استحضارنا لأبجديات الفرح.
شكواي الأخرى هي أننا لا نشكو كفاية، أننا لا نشكو بكثافة وغضب، أننا لا نشكو بأمل، أننا حولنا مجالسنا لمجالس الشكوى. بأننا نشكو ونحن جالسون، وأن الشكوى اعتادت أن تنطلق صوب السماء كدعاء أو صوب آذان لا تصغي بحق، اعتدنا إرسال الشكوى كبريد لا يصل إلى وجهته. حتى أن السلطات في بلادنا امتهنت أن ترسل شكواها إلى نفسها: "حلو عنا".
أتذكر عندما كانت الشكوى من رتابة التعليم تتحول إلى هروب سريع ومخادع من المدرسة، وأتذكر أيضًا أنني شكوت فقدان الصديق وبعد الأصدقاء، وأحيانًا شكوت لنفسي احتفائهم ببُعدي فابتعدت عنهم أكثر. وأتذكر أيضًا عندما شكوت لطفلة بأنني لم أصبح "عمو" بعد، حتى اعتذرت لي، ومن ثم أدركت أنني ربما تجاوزت حدودي مع طفلة أرادت وسيلة لمُخاطبتي. فما لها واشكاليتي مع سرعة مرور السنين، ولكنها اعتذرت. أتذكر عندما كانت الشكوى تستيقظ فينا كرصاصة أو حجر، عندما كانت تلقن العالم دروسًا في كيف تكون الشكوى مصدرًا للكثير من الأمل والفرح والوعد بالقادم.
تولد الشكوى وتطفو إلى السطح لتقول لنا وتحدثنا عن كل ما هو غير محتمل حولنا وفينا، لكن اليوم أصبحنا نشكو لنحتمل، واحيانا نشكو لأن الجميع ببساطة يشكي أيضاً.

الأكثر قراءة

"صوتك بنعس"

هنا أسجل اعترافي

سؤال الأحياء