العيش كفاقد

 سأخبركم بقصة قصيرة جداً، عن تلك المرة التي قال لي صديقٌ أنَّه يعيش كفاقدٍ... فاقدٌ لكلِّ رغبةٍ وطموحٍ وهدفٍ، وحتى فاقدٌ لأيِّ بصيصٍ صغيرٍ من الأمل. وفعلاً، رأيتُ بجانبه شبحًا يحاول الدخول مرَّةً أخرى لجسده، يحاولُ أن يتسلَّلَ إلى عقله، يحاولُ أن يتجسَّدَ كأكثر من ذكرى، يحاولُ العودةَ كوعيٍّ. رأيتُ هذا الشبح يحاولُ أن يستدرجه نحو المشي في دروب التأكيد على الحياة مرَّةً أخرى. ولكنَّ صديقي كانَ أدهى، وأعلنَ حربًا أهليةً على نفسه.

صدمني صديقي، ليس لأنَّه يراوغُ بإتقان، وليس لأنَّه يراقصُ أحلامَه ويتركُها لوحدها على خشبةٍ متهتكةٍ... خشبةٍ كانت يوماً ما مسرحًا يضجُّ بالزائرين... صدمني ليس لأنَّ التخلِّي والخسارة والتفريط مواقفٌ غريبةٌ أو مرفوضةٌ، بل العكس تمامًا، نحنُ نحتاجُ كثيرًا لتلك القدرة والقوة على التخلِّي، لتلك القدرة على أن نقولَ كفى وأن نرحلَ.
لا أخافُ من الذين يتخلَّون دون أن يتاجروا، ممن يقبعون في ذلك الحيز الرمادي، ممن يعلنون بصمتهم أنَّ القضية، أي قضيتنا، خاسرةٌ، ولكنَّهم يصمتون. ولكنَّ البعض حوَّلَ التخلِّي إلى تجارةٍ.
وهناك من تخلى وهاجر هذه البقعة الضيقة من كوكب الأرض ويعود إلينا كلَّ صيفٍ، وأحيانًا نادرةً في الشتاءات القصيرة ليشكو هجرانه ويتبجح بأنَّ العالم وراء الجسر الخشبي يتسع لأحلامٍ أكثر.
ومنا من تخلى عن الحب لأنَّه يرفض الانغلاقَ على آخر واحدٍ فقط، دون أن يلعبَ على حدِّ الاحتمالات، دون الوعدِ الضمني في بدايةٍ جديدةٍ قد تأتي الآن أو غدًا. ومنا من تخلى عن صديقٍ كان يشاطره النوم في الزنزانة، ويتراقصُ معه على أنغامِ العدِّ في تمام الساعة السادسة صباحًا، تخلى عنه بعد أن قال صديقه للمحقق: خذه معنا. ومنا من تخلى عن سيجارة وسجل في النوادي الرياضية ومن ثم تخلى عن النادي الرياضي وعاد للسيجارة.
ومنا من خرج في التظاهرات ليؤكدَ لنفسهِ أنَّه بالحقيقة لا أملَ بالتغيير ولا حياةَ لمن تنادي، خرج يصرخُ غضبًا حتَّى يعودَ إلى بيته ويؤكد لنفسهِ أنه يمكنهُ أن يتخلى عن "النحن" الآن.
ومنا من يترنح، هل يدخلُ الشبح الجالس بجانبه ويمدُّ له يدَ العون والترحيب، أم يقتلهُ مرَّةً أخرى.
صدمني صديقي لأنه هو وأنا وربما أنتم أيضًا وقعنا في حبِّ الخسارةِ نفسها، وعلمتُ أن وراء العيشِ كفاقدٍ، وراء هذه الرغبة في التخلِّي، قصصٌ طويلةٌ جدًا جدًا.

الأكثر قراءة

"صوتك بنعس"

هنا أسجل اعترافي

سؤال الأحياء