بوابة الانتظار

 

كانت عمان بالنسبة لي كمرفأ تتوقف فيه السفن ليلاً قبل أن تبحر مجدداً نحو وجهات أكثر إثارة. ولكن مع مرور الزمن، بدأت أكتشف في عمان أوجه قلقة ومرتبكة. إذ هي صحراء، وفي وسطها تتربع تلال ترتفع بكل الاتجاهات، تعلن عن نفسها بلوحات إعلانية كثيفة تلون سماء المدينة وتغطي سواد أبنيتها. الدواوير تتمركز في فضاءاتها العامة، يستخدمها سكانها للإشارة إلى مواقعهم ووجهاتهم، دواوير تُشبه بوصلة الرحالة الذين يعتمدون على أضواء الكون التي عادة ما تصلنا متأخرةً بملايين السنين الضوئية... ضوء من الماضي يُشعل اتجاهات اليوم. ويتموج داخلها نهرًا قد دفنه الأسمنت... صحراء تتشح بالرطوبة، كأنما تستقبل اللّاجئين من كل صوب وحدب بعرقهم وهلعهم وبحثهم عن قطعة أرض يبنون عليها انتظارهم الطويل. عمان مكان تتيبس فيه الجراح المفتوحة وتنتقل إلى عوالم الصمت، ألم صامت وعابس يظهر لك بعبوس الناس في الطرقات.

أتوا هؤلاء الرحالة إليها، من جبال الأرمن الغربية بعد المذبحة، ومن بغداد ونواحيها بعد أن وجه ابن الجنوب الأمريكي الأبيض أنظار الإمبراطورية نحو الذهب الأسود ونحو الجبهة الشرقية لدولة الاحتلال، ومن جنوب سوريا بعد أن التهمتها نيران المارد والمتمرد، ومن قلب فلسطين ووسطها، ومن مصر والسودان وليبيا والمغرب... لكل قدوم قصة، ولكل لجوء صمته، ولكل جسد في عمان هيكل تركه مدفونًا من حيث أتى. حتى الذين لم يلجأوا يمتلكون حنينًا غريبًا ورغبة في أيام تسبق لحظة لجوء الآخرين. عمان مدينة لا تنسى، ولكنها أيضًا لم تتعلم كيف تنبش الذاكرة، هكذا هي معلقة بترقُبها الأعرج.
تظهر عمان، للوهلة الأولى، كتوزيع هندسي غير متقن للبيوت المتناثرة والسريعة البناء، بيوت تبدو أنها تحتمي قليلاً من كثرة الأسواق والمقاهي. تارة تظهر الأسواق وكأنها على وشك التهام البيوت، وتارة أخرى تبدو المقاهي كأنها أصبحت بديلاً عن صالونات المنازل وحميمية الأسر.
في مدننا، بشكل عام، يتركز كل شيء حول العائلة؛ هذه هي الصورة التي رسمناها لمدننا في البداية. المدن التي تجمع بين العائلة والبقالة لتلبية احتياجاتنا اليومية العابرة والسريعة، ومدرسة صغيرة تُعنى بتغذية مستقبل جيل يظهر مليئًا بالحيرة والارتباك. وصيدلية تقدم مأوى لألام القلق والضغط والسكري وجميع أشكال الموت الهادئ والبطيء. في عمان، كل شيء يدور حول العائلة واستمراريتها؛ البيوت تتسع وتتوسع في أروقتها، فيما الشوارع تضيق، والنظافة تسود البيوت بينما الفوضى تغمر الشوارع.
في لحظة ما، بدأ اتساخ الشوارع والأسواق يتسلل إلى بيوتنا. لا أعلم بدقة متى بدأ هذا الانزلاق، ولكن في عمان ومدن أخرى عديدة، بدأت العائلة تتلوث تماماً كما شوارعنا، أو ربما كانت دوماً كذلك، لا أدري. ما يهمني هو أنه في عمان يظل جيل كامل في حيرة من أمره أمام الخيارات، يتردد في الإنجاب، ويتذبذب أمام سؤال الانتماء. تفرض عليه سرعة الحياة وضغوطها تأجيل الاستقرار، وتجربة كل أنماط الحياة والأفكار، ولكنه في النهاية يظل، كأغاني "شب جديد"، متقطع السرد ويفتقر لنسق سردي متماسك، أو ربما هو غني بفقره هذا، يتلاعب بالأصوات ويستكشف إمكانيات الأصوات الكامنة، وأحياناً يرفع شعارات بحماسة وحرقة. تجربة سمعية ترفع من شأن الحياة اليومية وتتمرد على نفسها، تقدم أغنية سياسية ومن ثم تقدم أغنية تريد الا تقول شيئا. هكذا هو جيل اليوم في عمان، وفي فلسطين، وأتوقع في كل مكان، مرهق بالاختيارات ويعيش ضمن تدفقات الصورة. الأكثر إلحاحًا في اليقين هم الذين لا يمتلكون ترف التأمل بسبب ندرة الإمكانيات، الذين يكافحون من أجل الخبز اليومي.
لا أستطيع أن ألوم هذا الجيل العشريني و الثلاثيني، فمن شرب أبناءه العزوف عن خطيئة اللحاق وراء الاحلام السياسية الكبرى، وجه أنظار هذا الجيل أيضا لخطايا العائلة... لما تتناقله من أوبئة، ألمها التي تبقيه تحت الاغطية وتخبئه جيدا، ولما تخلفه من هلاك يسبر اغواره في أعماق النفس، حتى لو امتلكت العائلات الكثير من الحب ايضاً.
في رحلتي من الجسر إلى عمان رحلت مع سائق تكسي كان يشكو انتشار الدعارة في شوارع عمان. كانت شكواه أقرب للبوح، فهو ملم بكل التفاصيل سوق يبقى على الهامش وبالسر وعندما اردت تغيير وجهة الحديث، كان السائق يعود مرة أخرى للدعارة وانتشارها. لا أعلم تحديداً لماذا أصر على تقديم هذه الصورة عن المدينة خاصة وأنه أصر على أنها ظاهرة دخيلة أتت مع الاخر الغريب، وأنها بعيدة عن اخلاق الأردنيين كما قال لي مرارا وتكرارا.
تذكرت في لحظتها قصة قصيرة لغسان كنفاني يتحدث فيها عن بائعة هوى جسدت “كل الحقيقة" لبطل القصة، مثلت قدرة الإنسان على السعي واللحاق برغباته رغم البعد والإرهاق والتعب، رغم أن بائعة الهوى تقطن في شقة داخل زقاق طويل ومرهق.
وعاد ذهني إلى جان جينيت الذي علل بيع الجسد بالشكل الرمزي للرمز نفسه. بمعنى أن في صلب المسألة اليوم، وفي صلب حقيقة اللحظة الراهنة هو "تدعير" (من دعارة) العلاقات الاجتماعية. نضع أنفسنا في مؤسسات لا تمتلك مشاعر، ومن ثم نبرر لها، بل نتشبه بها ونصبح تماما مثلها. نشكوها علنا ولكن بالسر نريد بقاء الأمور كما هي. وهكذا هي ملاحظة سائق التكسي، يشكو الاتاحة ولكن عيناه تحدق مليا في كل فتاة. نبيع أوقاتنا، ووقت أجسادنا بعمل لم نعد نؤمن بأهميته، ونصيغ محاولات للهروب من فضيحتنا عبر فضائح الآخرين.
ويمكننا وصف عمان بأنها شبكة واسعة من المسارات التي تقودك إلى سوق امريكي تجاري كبير. أو يمكن كما يحب الساسة والمناهضين للإمبريالية وصفها ككيان وظيفي ومؤقت، مدينة أعدت لتمتص مآسي الآخرين، عمان كسفنجة مسح تطهر الألم وتحوله إلى سوق تجاري أمريكي كبير.
وبالمقابل، يمكنك ألا تصفها بالكثير، فهي تشبه مدن الاسمنت المترامية الأطراف في الضفة، لكنها أوسع وأكبر وأكثر ضخامة، بالإضافة إلى أنها أشد صرامة في تقسيماتها الطبقية. هناك فضاءات كثيرة بعيدة المتناول عن أبناء الطبقات العاملة، وأخرى لا يدخلها أبناء الطبقات العليا. لا يختلط هذا مع ذاك الا في سيارات الاوبر، أو في الدوائر الحكومية، أو في المواقع التي يخدم فيها هذا ذاك. حتى عندما ينتقل أحدهم من شرقها إلى غربها، ينتقل كسائق أو بائع متجول، وعندما يحل الليل يعود الجميع إلى مواقعهم برتابة وروتين أقرب للملل.
شاهدت في عمان فيلما عن التشيلي، وبالتحديد عن المجازر التي ارتكبت بحق أنصار سيلڤادور أليندي، بعد انقلاب دموي أسس لتشيلي الحديثة. فيلم يضع المؤسسة العلمية وبحثها عن أسرار الكون مقابل أمهات يبحثن عن ركام أجساد أبنائهن. تلعب أضواء النجوم التي تصلنا متأخرا مجاز لذكريات تحاول تشيلي الحديثة ومؤسستها الحاكمة طمسها وردمها دون إحقاق للعدالة. اضواء النجوم تأتي متأخرا، إي انها أضواء من الماضي البعيد التي تأتي لتضيء ليل الأمهات الباحثات عما تبقى من أجساد أبنائهم داخل الصحراء. تساءلت للحظة: لماذا هذا الإصرار على رؤية العظام؟ هل يكون الموت حقيقيا فقط حين نجد الدليل القاطع والمتحجر أمامنا؟
تذكرت غسان مرة أخرى، تذكرت أنه يحدثنا عن احتضار عصفور ولكنه لا يقتله، يحدثنا عن عدم قرع جدران الخزان ولكنه يبقي الخزان مغلق دون أن نرى الجثث. يحدثنا عن الغريق الذي قد يكون ما زال حيا. يحدثنا عن الموت الممكن، وليس الموت الذي كان. يترك هامشا لنا لنحيا، ولو انه رآه هامش صغير. وهكذا هي عمان أضواء من الماضي يحملها سكانها أحيانا دون أن يعرفون، وهامشا من الحياة على بوابة الانتظار.

الأكثر قراءة

"صوتك بنعس"

هنا أسجل اعترافي

سؤال الأحياء