المشاركات

عرض المشاركات من فبراير, 2021

"صوتك بنعس"

  قد يكون المستطيل أكثر الأشكال الهندسية التي ترافق توالي الأيام ومللها منذ أن حل الزائر الصغير المتحول (الفيروس). هناك مستطيلات الموت التي تتبارى أمامي على من يُراكم نصيبا أعلى من رسائل التعزية. زارنا الموت بكثافة، موت سريع ومتوالي ومكثف، يتراءى أمامي ويتلاشى بعد أن أخط على الكيبورد إحدى القوالب المعروفة للتعزية: "لروحه السلام"، "عظم الله اجركم"، "فلتبقى ذكراها"، وهلما جرى من جمل مُعدة مسبقا لإشهار وإظهار تضامنك مع الآخر في لحظة الفقدان. هناك أيضا مستطيل رمادي كبير وآخر أسود صغير أتحدث من خلاله مع دوائر الحياة المختلفة: دائرة العمل، ودوائر الأصدقاء، ودوائر العائلة من الصغرى إلى الكبرى، ودائرة أرسمها حول نفسي خوفا من التورط بالآخرين، أشيد على محيطها "سنسله" قصيرة وخطاطيف من الزهر البنفسجي التي تنمو على هياكل "البصل" البارزة. لا يرقد جسدي بمركز الدائرة ولا على مسافة متساوية من محيطها المُزين بالبنفسج، بل يناور بحسب هوية الزائرين. أحيانا أفتح إحدى البوابات وأدخل أحدهم ليرافقني قليلا، قبل ان أكشحه من الفقاعة صارخا في وجهه وهو يغادر "ي...

لما لا!

لم أكن أدركُ أن في همسات الأرض حكاية عن دودة حفرت أنفاقها ودهاليزها بعد أن أكلت لحم آدمي عاش ودُفن في أحشائها. لم يتسنَ لي أبدا أن أتأمل صعودي إلى أعالي السماء مرتين، إحداهما على متن طائرة بوينغ تُسمم الهواء، وأخرى بينما كنت أغفو جاثيا على ركبتي ومنصتا لنكات المسلحين. لم أكن أعلم أن للسماء طبقات وأن الوصول إلى مداها النهائي عودة إلى الفراغ. هكذا أنا لم أكن اعرف أن للأفلام ما هو ظاهر فيها وما هو باطن فيها، وأن العبرة ليست فقط في سرد الحكاية ولكن بمزاج اللحظة التي نتلقى بها حركة الشاشة. ببساطة كنت دوماً منهمك في هذا وذاك ولم يتسنَ لي أن أهدأ قليلا، أن أتروى. أدركت في غفلة أنني أحتضر، وبدا لي أن النهاية أقرب من البداية. كنت أحيانا أحدق في شريط حياتي، هذا الذي ندعوه ماضيا، أتأمل الفتى الذي حاول التمرد على كل القوالب. الطفل الذي لم يكتفِ باللغة لأنها ببساطة ليست إلا الكلمات التي تلحق بالأشياء... الطفل الذي كان يمشي في الأماكن المُخصصة لسير السيارات.. والطفل الذي كان يُصدر الأصوات حين تطلب المُعلمات الهدوء التام. أذكر مرة أطلق عليّ أحد المثقفين لقب "صبياني" لأني اقترحت التبول على ...

ما زلنا

ما زلنا ما يُخيفُني بحق ليس النهاية، فهي مفتوحة وقد يتبع إسدال الستارة حرارة التهليل، او نقدٌ يلوم المخرج على رداءة التمثيل. لا اخاف حين يغافلني الفجرِ أو اولِ الكلام حين يلقى الحديد، ما يقلقني قليلا ان ابوح، بعد التعبِ، سرَ الحبيب. ولكن ما يخيفُني أكثر: ان القى الخوف وحيدا، وان لا أجد حولي من أبصر خوفي فيه. يتسارع جسدي بين سكون الجدرانِ، لا ملائكة تغيث جسدي الليلة سوى كبسولة وحيدة على المنضدة وأخرى ذابت بين حرارة الضلوع. أتأمل مدارات القلب (تسارع ومن ثم تباطؤ) ايمكن لكبسولة ان تُسكن درب التائه القلِق؟ وأن تجبل من نياط القلبِ فؤادا؟ ام انها، فحسب، تطيل الطريق إلى التراب؟! أدعو إلى غرفتي شاشة، أضع وهجها امامي، لا أنام إلا على أصواتها ولا أصحو إلا على موسيقاها.. شاشة هي امتدادي وشاشة هي قدم أخيل، وقلق امي يتراءى امامي كنظرة، وأحيانا اخرى كصورة، او نسخة عن صورة. ما أثقل الشاشة حين يتوارد على أضواءها قلق أُم لا تعلم كيف تحرس ابناءها! ---------- أقول لنفسي: ما يخفيني بحق أني على علنٍ خبئت اسراري. لم أر شاشة تتوب عن ذنوبها. لم أر شاشة تتضرع: "رب السماوات والأرض، يسمع ويجيب".. ما يخ...

تموت الفكرة؟!

شبح الفكرة (١) تنتحر الفكرة أحياناً، تبهت حين لا تُقنع وتفنى. تخونها اللغة، فتجف كنهر كف عن التدفق. او كجسر خشبي لم يتسع للعائدين. ترتبك الفكرة، كراقص أدرك ثقل حركته قبل ان يطير، او كلاعب فقد شهية انتصاره قبل ان يُسدد. تتهاوى الفكرة، حين لا تعانق اللحظة، تنسلُ من وشاح الزمن وتفقد القدرة على مناغاة القلب! للأفكار موعدها مع الموت، كالشجرة التي تخفي هلاكها لوهلة حتى لا يلمح الحطاب خراب العروق فيها. (٢) ستأتي الريح، تشتد قريباً، سيأتي الخريف مثقلا باصفراره وحسرة المواعيد التي لم تكتمل، سيأتي تشرين ويتبعه تشرين، وسنبقى مع أسفنا على كل ما لم يكن.. على قُبلة داعبت أجسادنا ولم تعد مفرحة  وقتما تبددت، وعلى البيوت التي هجرناها تلك المقامات التي أهملناها وحيدة تركناها  لفعل الدهر فيها وفينا. لزائرين جدد  يعبدون شمس "صهيون". (٣) كدنا ان نكتمل حين لبسنا رداء المشيئة كدنا ان نملك الزمن، وان نلتئم كدنا ان نُحيى الموتى كتعويذة إيزيس لحبيبها. خبأنا بين أضلاعنا مُفتاح الحياة واعتقدنا لوهلة ان كل أيامنا ربيع، وبين البؤس الذي كان والبؤس الذي يعتري خبز المدينة يقبع "الزمن الجميل" ينشدنا...

تبقى الذئاب

  تبقى الذئاب بُرجٌ رماديٌ يحاول التهام المدى، وطرقٌ لا تزاوج بين أصحاب البلادِ، وعلمٌ يُرفرف فوق العلمْ، والعديدُ من الدهاليزِ التي تولّد التوَهان! والفضاءُ شأنٌ يُمكن تأويلهُ وخلف النجوم يختبئ الصيادْ. أهكذا يوصدُ الإنسانُ السماء؟ أيكونُ الأفقُ ميعادُنا مع الموت؟ كيف انقلبت السماء علينا؟ فراغاتُ المدينة تُزخرفها خيوط النُحاس توحّد الهنا والهناك.. ونحاسٌ يتساقط علينا كالزخاتْ! يا ابن زيوس وهيرا أتقتلني لأني من هنا؟ كيف لنا أن ننسى؟ نسينا أن ننسى، وكلُّ ما هنا يذكُرنا ونذكره! أعرف فتاةً رفضتْ أن تهجرَ قلبَها، كانت تُدندن ترنيمةَ الانفجار وتصرخ وهي مُلقاةً كساق البامبو: الهجرانُ خيار المغتربْ وقرار المتأرجحِ المضطربْ، لا هجرانَ لمن أنشدَ الانفجارْ.. كان الحدث وكانَ ما كانَ ولكن.. لا ملجأَ لي سواكَ وترنيمتُكَ أحملُها، يا حبيبي، سأحملها، وسُنعلّم الدنيا كيف ينبثق من الانفجارِ ترتيلةٌ تزخرُ بالحياةْ. في الصورة التي أماميَ العديدُ من التفاصيل المهملةْ:' تموجُ شعركَ الذي انحنى للدهرِ، وعيناكَ اللتان تتلألآنِ عند استحضار الخرافاتْ. أتذكرُ حين تساءلنا إذا ما تلعثم النبيُ موسى وهو معلقٌ بين...

مقام التوتو

صورة
قال أبرهيم لي في غفلة بينما كنا نستمع إلى المقطع الشهير  "كل ده كان ليه لما شفت عينيه" لمحمد عبد الوهاب، أن أزيز الرصاص الذي حلق فوق رأسه بينما كان ممداً على جانب الطريق من هول اصابة استقرت في وسط جسده هدأت من روعه، بل جعلته يتراقص ليس خوفاً من اصابة اخرى، بل لأن الرصاص تحول في مخيلته إلى مقام يشبه في بدايته الدربكة وفي نهايته صوتاً لا يخرج إلا من آلة هوائية أقرب إلى الناي. اعتقد ابراهيم أن الجنود قد انتظموا بإطلاق الرصاص بحيث كانت تنطلق صليه من أربع رصاصات تقطعها قنبلة صوت تنفجر، قبل أن يتهاوى الغاز المسيل للدموع مشكلا لوحة بيضاء، لا يقطعها الا صليه أخرى من أربع رصاصات… وهكذا دواليك. أجبته مازحا إن علينا أن نطلق على الانتظام الموسيقي الغريب الذي شهدته المواجهات قرب المخيم مسمى مقام التوتو. حدثني ابراهيم أنه ذهب إلى نقطة الاشتباك مترددا فهو يعلم أن المواجهة في مناطق مُعدة مسبقا أشبه بمسرحية نقع نحن ضحاياها ونفتقد فيها لأهم عناصر التأثير. ما دهشت منه وكهربني وجعلني اقلق قليلا على ابراهيم هو إنه اصيب واقفاً، لم يتحرك من مكانه، ولم يتزحزح، وقف ينتظر الرصاصة وهي في طريقها إلى جسد...

المقاتل الجبان

قبل أن يخرج ايتان من شُقّته الصغيرة في شمال تل أبيب، يُحضّر بذاته وجبةً نباتيةً من الفطر الأبيض والكوسا، والتي عادةً ما يخلطُها مع الباستا وصلصة الصويا.  ايتان شابٌّ في أوائل الثلاثينات، لم يأكل اللحم منذ أن أنهى خدمته العسكرية الأولى. شُقّته عبارةٌ عن محميةٍ طبيعيةٍ صغيرةٍ للحيوانات، خصوصاً الصراصير الكبيرة، التي تحبُّ جوّ تل أبيب الرطب وتعتاش على مُخلفات أهلها.   معنويات ايتان عاليةٌ، يُحدّث "ليلي" عن آخر مغامرته التي خاضها مروراً من أجواء غزة وحتّى مراقبة عمليات الاقتحام الليلية التي تصاعدت بكثافةٍ في أنحاء الضفة الغربية في الآونة الأخيرة. يُسهب في حديثه عن تفاصيل الأماكن التي يزورها سراً وعلى غفلةٍ من سكّانها، زائراً يُحلّق من فوق، يَرى ولا يُرى، مُحدِثاً صوتاً أشبه بطنين الذبابة، مُنبّهاً سكّان المنطقة من أن أبواب بيوتهم قد تُقتَحمُ فجر هذه الليلة.   أكثر ما يُثير قلق ايتان هو كميات الكلاب الضالة التي تعيش على هامش القرى الفلسطينية، كم يودُّ لو يصطحبُ تلك الكلاب معه لتجلس بينه وبين ليلي. يُحدّثها عن كلبٍ أبيضَ سُحر به وهو يُحدّق بالشاشة الكبيرة المسطحة على ...

لقد قبلت الدعوة، لنعد إلى الحرب….

لقد قبلت الدعوة، لنعد إلى الحرب…. قالها يونتان لموشيه وهو يطفئ سيجارته في دلو مليء بالرمل بجانب المرحاض. انطلق الاثنان نحو حجرتهما واتخذا موقعهما على مقعديهما الجلديين الأسودين. اعتمر موشيه سماعات الرأس بعد أن أسند عكازته على الحائط، ثبّت الميكروفون المتصل بالسماعة وقرّبه من فمه ليكون صوته مسموعاً. دفع يونتان كرسيه ذو العجلات المنزلقة إلى الوراء قليلاً، ووضع لوحة المفاتيح على ركبتيه، ونظر إلى موشيه الذي كان يزيح مجسم طائرة الـ(اف 16) بعيداً عن لوحة المفاتيح التي أمسكها من طرفيها كأنها مقود طائرة، ضحك الاثنان كطفلين تحايلا على قوانين الكبار والتهما حبتي شوكولاتة بسرعة. موشيه: كانت هذه هدية من أبي الذي مات في لبنان، لقد قتل وهو يقود النسخة التي طورتها شركة الصناعات الجوية. سقطت طائرته في جبال جنوب لبنان وعلى مرمى حجر من الحدود.  أذهب دوماً إلى الشمال لأحدق بتفاصيل الجنوب جيداً، هادئة ومتزنة ويعلو صفائح تلالها شقائق النعمان، لوحة مستمرة من الأحراج الخضراء التي تعلو بفخامة حول جبالها الملتوية. فكرة واحدة رافقتني دوماً وأنا أحدق بلبنان، كيف لكل هذا الجمال أن يخبئ كم المصائب التي حلت بنا...

استطلاع رأي

في يوم من الأيام وبينما كان محمد جالسا في البيت يلعب ويشاكس اخته الصغيرة دوى رنين الهاتف مقاطعا صيرورة الحياة في البيت وفارضا نفسه. لقد كان محمد يكره رنين الهاتف، فهو يحب الهدوء ويمقت الضجيج، ولكنه كان يبغض فكرة الهاتف أكثر. كان يقول دوما لامه عندما تطالبه بشراء هاتف نقال، "التلفون جاسوس يما، مش معقول اخلى جاسوس معي وين ما اروح". سارع محمد بالتقاط الهاتف حتى يقطع ضجيجه المتصاعد، ومن سرعة الانطلاق عاد الألم لقدمه اليُسرى. لم تشفى قدمه كليا، بالرغم من التزامه الكامل ببرنامج إعادة التأهيل.   محمد: الو المرأة: مرحبا انا بحكي معكم من شركة ميدل ايست للاستطلاعات حابين نسألك كم سؤال ازا بتسمح.  محمد: من شركة شو؟  المرأة: ميدل ايست للاستطلاعات... عم نعمل استبيان عن أداء الحكومة في إدارة ازمة الجائحة وحابين نحكي معك.  محمد: من وين اخدتو رقمنا؟  المرأة: عنا نظام مبنى على خوارزميات بطلع الأرقام بشكل عشوائي. محمد: خوارزميات؟!  محمد: طب عن شو بدك تسالي؟  المرأة: بدي اسالك ازا انت بتثق بأداء الحكومة؟  محمد: اه بثق كليا.  المرأة: هل غيرت عاداتك اليومية بسبب ...