"صوتك بنعس"

 قد يكون المستطيل أكثر الأشكال الهندسية التي ترافق توالي الأيام ومللها منذ أن حل الزائر الصغير المتحول (الفيروس). هناك مستطيلات الموت التي تتبارى أمامي على من يُراكم نصيبا أعلى من رسائل التعزية.

زارنا الموت بكثافة، موت سريع ومتوالي ومكثف، يتراءى أمامي ويتلاشى بعد أن أخط على الكيبورد إحدى القوالب المعروفة للتعزية: "لروحه السلام"، "عظم الله اجركم"، "فلتبقى ذكراها"، وهلما جرى من جمل مُعدة مسبقا لإشهار وإظهار تضامنك مع الآخر في لحظة الفقدان.
هناك أيضا مستطيل رمادي كبير وآخر أسود صغير أتحدث من خلاله مع دوائر الحياة المختلفة: دائرة العمل، ودوائر الأصدقاء، ودوائر العائلة من الصغرى إلى الكبرى، ودائرة أرسمها حول نفسي خوفا من التورط بالآخرين، أشيد على محيطها "سنسله" قصيرة وخطاطيف من الزهر البنفسجي التي تنمو على هياكل "البصل" البارزة.
لا يرقد جسدي بمركز الدائرة ولا على مسافة متساوية من محيطها المُزين بالبنفسج، بل يناور بحسب هوية الزائرين. أحيانا أفتح إحدى البوابات وأدخل أحدهم ليرافقني قليلا، قبل ان أكشحه من الفقاعة صارخا في وجهه وهو يغادر "يا خيبتي"!
ما يميز هذه الدائرة تحديدا أنها قادرة على أن تكون فقاعة وأن تتحول بلحظة إلى فخ، فخ أحفر فيه انفصالي عن الناس، وانهماكي بنرجسية الفروقات الصغيرة.
بعد أن تلقي أمهاتنا أجسادنا الهشة في هذا العالم، نجد أنفسنا مندهشين من كل هذا الوجود، مما يعنيه، ومما لا يعنيه. تأملتُ صمت الكون وعدم اكتراثه في تفسير نفسه، تراني أصرخ في وجه شجرة الخروب التي تلبكت من زحمة السيارات وغازاتها، ليتقلص فضاء ظلها، أصرخ مطالباً إياها بالتشبث بما تبقى في عروقها من حياة، وتارة أخرى تراني أزاحم نفسي والومها على أنها متجمدة كشجرة الخروب تماما. إذن لماذا أعاتب شجرة الخروب؟
لم يكن الفصل الدراسي الذي انقضى فصلا اعتياديا، لقد كان فصلا مليئا بغياب الحضور ونومهم المتقطع على أصواتي التي حاولت أن أبقيها بإيقاع يقظ، أي أقرب إلى اللحن الرحباني الممزوج بسرقات إبداعية من الموسيقى الكلاسيكية، إيقاع لا يدعوك للغوص في أحاسيسه بقدر ما أنه يوهمك بأنك تمتلك العالم، إيقاع يحملك على كتفيه، ويوصلك إلى الأماكن المعتادة.
لقد نجحنا بتحويل فيروز إلى أفيون الأماكن والأيام الاعتيادية، يحملك صوتها إلى مسالخ الحداثة، بينما يحط جسدك على كرسي إسفنجي متجمد أمام شاشة عليها الأرقام والصور والرسائل والأوامر والمهمات ذاتها، تكرار ممل يولد صبر الحمار وصمته عن السير بالمسارات نفسها.
لا أخفي عليكم أن تصوراتي النرجسية حول إيقاع صوتي اليقظ تحطم تماماً عندما صدمتني إحدى الطالبات وصارحتني بعد أن أيقظتها من قيلولة صفية، وقالت لي وهي تبتسم معتذرة:
“أستاذ صوتك بنعس".
هناك اصطلاحين دخلا على مفرداتي في العام الماضي، الأول "وجاهي" والثاني "جائحة". كلاهما اصطلاحان يعبران عن الوعي الذي تفرزه انقطاع وخراب تلك الأشياء التي لا نتأمل فيها، تلك الأمور التي لا تظهر نفسها أساسا، فلا تعطينا فرصة لان نتأملها.
الجائحة صنعها بالغالب تطويع الإنسان للحيوان، والتعاطي معه على أنه لا يتعدى المكملات الغذائية فوضع شركائنا على هذه الارض بأقفاص صغيرة تستعرض ما ننتجه من صيد قبل ذبحه والتهامه، اقفاص تتوسط الأسواق و اكتظاظها. وكلمة "وجاهي" التي كلما رنت في أذني أيقظت في داخلي حنين شديد لرؤية الطلاب يصارعون جفونهم ونحن نحاول تأويل ما قصده ديكارتز بمقولته: أنا أفكر، إذن أنا موجود.
كان ممكنا ألا تعرف أبدا على ما تعنيه كلمة وجاهي، كان من الممكن أن تبقى المساقات وجاهية دون ان نطلق عليها هذا الاصطلاح. ولكن تبدلت الأحوال وزارنا الزائر الصغير المتخفي واظهر لنا أن صمت العالم، لا يعني عدم قدرته على الانتقام من عبثنا به.
الموت هناك وبعيد حتى يزورنا، يحصد روائي وثق عودته المنقوصة إلى رام الله، عودته دون الملايين. صُدم مُريد عندما أدرك أن شجرة التين التي تتوسط حديقة بيته في دير غسانة قُطعت، أدرك حينها مدى عمق اشتياقه لعروقها، ورثاها كأنه يرثي غربته واغترابه. وحصد الموت بروفسور لم يحطم جدار الصمت، لأنه لم يصمت ابداً، وأخرين كثر ذكرونا بهشاشة الحياة وأمدها.
أتأمل أسماء الطلاب واصواتهم وهم يناقشون إحدى المداخلات حول الحدود بين "سلطة المجتمع" و"حرية الفرد"، أتركهم يتجادلون لوحدهم واسهو مع نفسي ومع اصواتي الداخلية.
أرحل بعيدا عن الصناديق السوداء التي أمامي، أرحل إلى نسمة الهواء التي تلاقيك عند الخروج من كلية الدراسات العليا، وإلى صور الطلاب وهم يسابقون الوقت ويناطحون سراب الناس للوصول إلى المساقات بموعدها، وإلى الابداعات المدهشة في اختلاق اعذار التأخير، وأغلق عيني قليلا.
"أستاذ... أستاذ"... تصرخ إحدى الطالبات.
ابتسم بسرعة وأقول معتذرا:
"معلش صوتكم كمان بنعس."

الأكثر قراءة

هنا أسجل اعترافي

سؤال الأحياء