مقام التوتو
قال أبرهيم لي في غفلة بينما كنا نستمع إلى المقطع الشهير "كل ده كان ليه لما شفت عينيه" لمحمد عبد الوهاب، أن أزيز الرصاص الذي حلق فوق رأسه بينما كان ممداً على جانب الطريق من هول اصابة استقرت في وسط جسده هدأت من روعه، بل جعلته يتراقص ليس خوفاً من اصابة اخرى، بل لأن الرصاص تحول في مخيلته إلى مقام يشبه في بدايته الدربكة وفي نهايته صوتاً لا يخرج إلا من آلة هوائية أقرب إلى الناي.
اعتقد ابراهيم أن الجنود قد انتظموا بإطلاق الرصاص بحيث كانت تنطلق صليه من أربع رصاصات تقطعها قنبلة صوت تنفجر، قبل أن يتهاوى الغاز المسيل للدموع مشكلا لوحة بيضاء، لا يقطعها الا صليه أخرى من أربع رصاصات… وهكذا دواليك.
أجبته مازحا إن علينا أن نطلق على الانتظام الموسيقي الغريب الذي شهدته المواجهات قرب المخيم مسمى مقام التوتو. حدثني ابراهيم أنه ذهب إلى نقطة الاشتباك مترددا فهو يعلم أن المواجهة في مناطق مُعدة مسبقا أشبه بمسرحية نقع نحن ضحاياها ونفتقد فيها لأهم عناصر التأثير.
ما دهشت منه وكهربني وجعلني اقلق قليلا على ابراهيم هو إنه اصيب واقفاً، لم يتحرك من مكانه، ولم يتزحزح، وقف ينتظر الرصاصة وهي في طريقها إلى جسده النحيل متبسما.
------
إبراهيم يلوم النكبة على هوسه المضطرب بكل شيء حتى في التنظيف المستمر. لا تفارق خرقة التنظيف يد إبراهيم، كان إذا تخلى عنها قليلا ليشعل سيجارة او ليتحدث بدون قيود يضعها على مسافة قريبة حتى يعود إليها بانتظام كل نصف ساعة. يُنظف بشراسة مخلفات توالي القهوة والدخان في لقاءاتنا الطويلة.
بيت إبراهيم متواضع ولكنه كان أنيقا مثل البيوت التي نجدها في كتالوجات محلات الأثاث، مُتقن حد الكمال. علاقة الصور المعلقة ببعضها البعض علاقة حسابية مبنية على استخدام ميزان الحائط كل أسبوع للتأكد أن كل لوحة في موقعها الصحيح.
أكثر ما يُحرك إبراهيم ويدفعه للقيام بأي شيء هو هوسه بإبقاء كل شيء في مكانه الصحيح. كان يمازحني احياناً ويقول، "ما يجعلني امقتُ إسرائيل هو إنها ليست في مكانها".
أحيانا كان يُصارحني وهو يرتجف قليلا انه يصحو من النوم ليفرك البيت مرة أخرى حتى يريح عقله. عند ايراهيم تفسير بسيط لهوسه في التنظيف، قال لي في سهرتنا التي عادة ما تمتد إلى الصباح، "في عقد نفسية عند اللاجئين صعب تفهمها يا مدني! منها انو في لوم ذاتي على خسارة البيت الاول وهذا اللوم هو اللي خلى ستي ومن بعدها امي ومن بعدها حضرتي نضلنا نظف، عشان ما نخسر البيت كمان مرة!"
تعرفنا انا وإبراهيم على بعضنا البعض في احدى المظاهرات الصغيرة التي كانت تنطلق من وسط رام الله. إبراهيم لم يكن كغيره من المتظاهرين، لم يكن عدمياً، كان يستيقظ في الصباح الباكر، قبل الفجر تحديدا، ويكتب في دفتر صغير كل المهام التي عليه إنجازها. يشعر مع إتمام كل مهمة إنه أقرب إلى بيته الأول، او هكذا كان يظن.
أكثر ما أراده ابراهيم كان يكمن في أن يكون حقيقيا مع نفسه وصادقا في كل ما يفعله، في إحدى جلساتنا الطويلة أخبرني أن المفارقة الكبرى والتي تمنع حدوث ذلك في زمننا هذا هي تحديدا اختلاط الحقيقة بالأوهام.
أحيانا يبدو إبراهيم متأكدا تماما مما يقوله وكأنه قطع الشك ووجد اليقين الذي ما زال يباغت الآخرين، يلتفت إلي ويُعلن، "لقد اشبعتنا الأوهام والخرافات.. اشبعتنا الأوهام، علينا إن نضع الحقيقة أيضا في مكانها. أسوأ ما في جيلنا هذا، هو أيضا أفضل ما فيه، لا يمتلك اليقين في شيء، متردد حتى النخاع، اغرقته كُثرة الخيارات وكثرة استلاب المعنى، أغرقه سعي من سبقوه لليوتوبيا تاركين له الكثير من الكثرة.. لا أكثر.
--------
أخبرني ابراهيم أنه حدق في وجه القناص على بعد ما يقارب المئة متر، وتقدم بخطوات هادئة وخفيفة حاملا حجراً ومدركاً ان القناص قد تنبه لحركته. اوقفته هنا عن اكمال حديثه مازحا وقلت:
- "طب كل ده كان ليه لما شفت عينيه؟
- لماذا لم تركض الى ما قد يشكل حماية من الرصاص؟
أجابني دون أي تردد لأول مرة في حياتي شعرتُ بإن امراً سيئاً على وشك الحدوث، كنت امتلك يقين المُنجم، شعرت بتلك اللحظة ان لي موعدا مع الحقيقة او مع القدر إن شئت. ضجيج من حولي من الشباب وصراخ المسعفين في مسارهم إلى أحد المصابين لم يمنعني من التجمد في مكاني.
وقفت انتظر مصيري مع رصاصة القناص. ببساطة لم اقوى ولم أرد التحرك او الاختباء، لم ارى في ذلك أي ضرورة، بتلك اللحظة من حياتي وامام ذلك القناص اللعين وجدت في هروبي تمسكا غير صحياً في الأوهام. أتت الإصابة كما اردتها أنا في خاصرتي ووجهي يواجه منظار القناص.
أتعلم يا صديقي احمد الله كل يوم أن الرصاصة لم تلسعني في الظهر، او "بعيد عنك... في العضلة اللي تحت الظهر."
اردت ان املك يقيناً بأنني في نهاية الامر لن اتلعثم...سأثبت! لقد غامرت بالوجود ولم أهاب العدم. هناك في تلك اللحظة تحررتُ من الموت.
أبغضُ كيف يتم تقديم النضجُ لنا، أبغض أن النضج عند الكثيرين يعني التروي في كل شيء. أرى يا صديقي في المنطق والعقل والهدوء سقفا يحدد لنا خياراتنا اليومية، سقفا يقمع ما في داخلنا من طفولة وغوغائية احياناً. الحرية هي أن تصل إلى الحد الفاصل مع الجنون حتى لو كان الثمن هو البقاء هناك. اريد ان احيى حراً حتى لو لم اعد من إحدى لقاءاتي المتكررة مع الجنون. كم منا يرقص في المطر حقاً؟ كم منا يمشي دون وجهة؟ كم منا يواجه قناصا ويحيى ليروي الحكاية؟
يكمل صديقي ويقول أكثر ما يرعبني الخوف، نعم الخوف. أنا أعتقد أن الحرية هي ليست فقط حريتنا من الانظمة الاجتماعية وبُناها التي تقوض فعل الفرد ولا هي العراقيل والظوابط التي نضعها أمام من يملكون ويمارسون السلطة.
أرى أن الحرية هي بالأساس حريتنا من العدم وأن الانسان لا يمكن له أن يتخطى الموت دون أن يملك احساس عالي بالترابط العاطفي مع مجموعة ما، ترابط لا يطفو على السطح بل يخرج من الباطن.. من أعماق الباطن.
اخاف من الجبن يا صديقي! اتعلم ان النظام السياسي لدينا يعاني من متلازمة الجبن! يعاني من خوف الأفراد في أعالي الهرم من العدم. اتعلم إن كل مشاريع التصفية والتسوية والخلاص هي محاولات مسكونة باليأس وأحيانا بالكثير من الخبث للنجاة من رصاصِ القناص.
يوجد قناص نأخذه معنا أينما نذهب، نحمله معنا كما نحمل السجن وكما حملنا مفاتيح العودة يوما من الايام، بعضنا يطلق على القناص الذي فينا مُسمى البراغماتية، وآخرين نعتوه بالواقعية.
ستظن أنني مجنون، ولكن لا بأس في الجنون كما قلت لك. لقد وقفت انتظر الرصاصة التي شقت طريقها الى جسدي، وفي تلك اللحظة لم اتذكر امي، لم ارى شريط حياتي، لم ترجعني الذاكرة الى طفولتي، في تلك اللحظة تحديدا كان كل شيء في مكانه… يا صديقي وانا اتهاوى على الارض ابتسمت!
وأكملتُ رقصتي على مقام التوتو.