المقاتل الجبان
قبل أن يخرج ايتان من شُقّته الصغيرة في شمال تل أبيب، يُحضّر بذاته وجبةً نباتيةً من الفطر الأبيض والكوسا، والتي عادةً ما يخلطُها مع الباستا وصلصة الصويا.
ايتان شابٌّ في أوائل الثلاثينات، لم يأكل اللحم منذ أن أنهى خدمته العسكرية الأولى. شُقّته عبارةٌ عن محميةٍ طبيعيةٍ صغيرةٍ للحيوانات، خصوصاً الصراصير الكبيرة، التي تحبُّ جوّ تل أبيب الرطب وتعتاش على مُخلفات أهلها.
معنويات ايتان عاليةٌ، يُحدّث "ليلي" عن آخر مغامرته التي خاضها مروراً من أجواء غزة وحتّى مراقبة عمليات الاقتحام الليلية التي تصاعدت بكثافةٍ في أنحاء الضفة الغربية في الآونة الأخيرة. يُسهب في حديثه عن تفاصيل الأماكن التي يزورها سراً وعلى غفلةٍ من سكّانها، زائراً يُحلّق من فوق، يَرى ولا يُرى، مُحدِثاً صوتاً أشبه بطنين الذبابة، مُنبّهاً سكّان المنطقة من أن أبواب بيوتهم قد تُقتَحمُ فجر هذه الليلة.
أكثر ما يُثير قلق ايتان هو كميات الكلاب الضالة التي تعيش على هامش القرى الفلسطينية، كم يودُّ لو يصطحبُ تلك الكلاب معه لتجلس بينه وبين ليلي. يُحدّثها عن كلبٍ أبيضَ سُحر به وهو يُحدّق بالشاشة الكبيرة المسطحة على مكتبه في مركز العمليات. أراه بوضوحٍ، هائمٌ لوحده في التلال القريبة المُحاذية لإحدى القرى قُرب رام الله، يخاف من كلّ شيءٍ حتى من دورة الأرض حول نفسها؛ فحين ينقلب النهار ليلاً، ينقلب عنده الخوف إلى نُباحٍ مسعورٍ!
يُردِفُ ايتان، لطالما سحرتني تلك القرى، فبالرغم من بُناها العشوائية وقِدم مبانيها، إلا أنها تمتلك منطقاً مُتأصّلاً، يا ليلي، من أعلى تبدو القرى وكأنها انبعثت من رحم التلال بتلقائيةٍ عفويةٍ، لا تلالَ دون قراها، ولا قرى دون تلالها. أخجلُ من قلاعنا، تبدو من علوٍّ شائكةً وقويةً في الظاهر؛ فهي مُثقلة التحصين، ولكنها وحيدةٌ، وبعيدةٌ بعلوّها... تبدو وكأنها صُمّمت لتزول.
ليلي أترجّاكِ...لا تخبري أحداً أنّني قلتُ هذا!
أخجلُ من كوني متلصّصاً أحياناً، أشعر وكأنّي منحرفٌ شاذٌّ أنظر إليهم من بعيدٍ مُحدّقاً بتفاصيلهم، بنسائهم، ببيوتهم، بسهراتهم، بأراجيلهم، وأسترقُ النظر لأفراحهم وأحزانهم.
أحياناً أشعر وكأنّهم يُدركون أننّي بينهم فلا يتصرّفون على سجيّتهم، أشعر وكأنّي يدٌ خفيةٌ، إلهيةٌ، أتفقّد الرعية بين الفينة والأخرى لأسطّر حسناتهم وسيئاتهم، فيكون عقابهم قوةً عسكريةً تأتيهم ليلاً، تجنُّباً لضجيج النهار.
في خدمتي العسكرية الأولى، كنّا نقتحم بيوت المدن المتمرّدة، أحياناً كنّا نقفُ في إحدى صالونات البيوت مدجّجين بأسلحةٍ حديثةٍ، نعزل أهل البيت إلى غرفةٍ خلفيةٍ ونقوم بالاستيلاء على التلفاز، حتّى أننا شاهدنا نهائي كأس العالم في إحدى الفلل الفارهة على أطراف مدينة نابلس. أتعلمين يا ليلي ما كان يصدمني؟ أن تستولي على بيت أحدهم، فيخرُج بأكواب الشاي الساخنة إكراماً لنا، سألتُ أحدهم لماذا تقدّمون لنا الشاي ونحن ندخل عليكم بأسلحتنا؟
نقدّمه لكم لأننا نحن الضعفاء نخجل من ضعفنا، فنجد غطاءً لعورتنا بإكرامكم كأنكم ضيوفنا، لكن أحياناً يكون الضيف ذهباً، فإذا ما طال عبئه يصبحُ فضةً، وإن أطال بعد ذلك يصبحُ حديداً. أنتم تأتوننا بحديدكم، وسترحلون به وقد التهمته نيراننا.
أدمنتهم يا ليلي، أدمنتُ منظار السماء هذا وأدمنتُ قدرتي على التحكّم بهم، يبدون على الشاشة كدمىً تشبه الرسوم المتحركة اليابانية، وأنا من يبعث الحياة والموت بهم وفيهم. أرشفتُ ذكرياتهم في عقلي لتختلط بذكرياتي، أحياناً أذهب إلى يافا لأشرب الشاي مع الميرمية، وأحتسي رأس نرجيلة بطعم التفاح، فقط لألتمسهم من حولي! لقد تحوّل الإعجابُ بهم إلى هوسٍ يأكلني أحياناً، وكأنّني لست أنا من دونهم!
أحياناً يا ليلي أجلسُ طويلاً في غرفة العمليات حتى بعد انتهاء مناوبتي إذ لا أكونُ قد شبعتُ منهم بعد، أتمنّى لو وُلدتُ بإحدى القرى لأتقن العربية بلهجتهم. أتعلمين ما أُبغضه؟! أنّ الشاشة لا تعكس روائح المكان؛ تسمعين الأصوات، لكنّ الصورة لا تكتملُ دون روائحها. وكم أُبغض الضباب، يحجب الصورة فنتحوّل إلى صُمٍّ بُكمٍ لا نرى ولا نسمع. أخاف من الضباب، أخاف من قطرات المطر، من الندى في الصباح الباكر، أخاف ممّا لا نعرف أننا لا نعرفه، ونحن المتبجّحين بمعرفتنا عن كلّ شيءٍ.
يُنهي ايتان على ما تبقّى من طبقه النباتي، ويستعدُّ للذهاب للالتقاء بموشيه في إحدى مقاهي تل أبيب المكتظة.
يأخذ شهيقاً، ثمّ زفيراً طويلاً يصحبه تأفّفٌّ؛ فهو لم يعتَد الخروج من البيت. يغيّر ملابسه، ويضع على رأسه قبعةً حمراءَ أمريكيةً تحميه من أشعة الشمس الحارقة. ومن ثمّ يطبع بأصبعيه على الشاشة الصغيرة لهاتفه "مقهى ديزنغوف"، ويخرج من شُقّته الصغيرة بعد أن خطّ المسار الذي سيأخذه من بيته إلى مكان اللقاء.
ايتان شخصٌ غير اجتماعيٍّ، فهو الابن الأوسط لعائلةٍ مكوّنةٍ من أربعة أشخاص، عوّض نقص حبّ أهله له بألعاب الفيديو القتالية. أخوه الأكبر أور ،الذي يخدمُ في وحدة الشرطة الخاصّة (اليمام)، هو سببُ بؤسه أمام عائلته، ذلك الشاب المقاتل الذي كلما عاد من الخدمة تقول الأم لايتان: قُم واستقبل أخاك وتعلم كيف عليك أن تكون ذئباً في عالم الذئاب!
يمشي ايتان إلى محطة الباصات القريبة من بيته، ويتأمل في طريقه هوس البلدية في وضع أعلام إسرائيل في كلّ زاويةٍ من زوايا المدينة، حتى أنها اختارت قطعةً من العشب الذي يُقابل المبنى الذي يسكن فيه ايتان، وقامت بدهن العشب بألوان العلم الإسرائيلي.
لم يُرق لايتان هوس بلدية تل أبيب في تذكير السكان الدائم بالعلم؛ فقد أدرك ايتان أنّ هذا الجنون لا ينبعُ إلا من موقع المتقلقل، وكأنّ المدينة قد تتلاشى في أيّة لحظة! وكأنّ سكانها قد يتركونها على عجلٍ، وكأنّ الهوس في وضع الأعلام قد يُثني السكان عن الرحيل!
بينما وقف ايتان ينتظر قدوم باص رقم ١٤، الذي سيأخذه لأقرب نقطةٍ من مقهى ديزنغوف، تذكّر حينها صديقاً آخر كان يحلمُ بأن تقوم البلدية ببناء جسرٍ إلى قبرص، بحيث إذا ما تأزّمت الأحوال واستلزم الرحيل، يستطيع سكان تل ابيب مغادرة المدينة سريعاً. كان صديقه هذا قد قدّم طلباً للحصول على الجنسية الإسبانية بعد أن فتحت الأخيرة أبواب الجنسية لليهود الذين غادروا الأندلس على عجلٍ.
كان صديقه مقتنعٌ بأنّ الحصول على جنسيةٍ أوروبيةٍ تشكّل “بوليصة تأمين" يحتاجُها كلّ إسرائيليٍّ في حال تلاشى الحلم الصهيونيُّ في فلسطين. استاء ايتان من أفكار صديقه هذا الذي وصلت عنده الأمور إلى شراء قاربٍ متوسّط الحجم وأطلق عليه مُسمّى "نوح"، سيرحل به مع ثلّةٍ من الأقارب والأصدقاء في حال حصل ما لا يُمكن أن يحصل. المفارقة أنه بالرغم من استياء ايتان من أفكار صديقه هذا، إلا أنه كان يطمئنُّ لأنّ صديقه حجز له مقعداً بين المقاعد القليلة على "نوح"!
دخل ايتان إلى الباص متردّداً، فهو لم يعتَدْ استخدام وسائل النقل العامة، بل اعتاد المشي على الأقدام لقضاء حاجاته اليسيرة خارج البيت. كان يتكرّر عند ايتان كابوسٌ يرى فيه جسَدَه قد انشطر إلى قطعتين متساويتين وقد نخرتهما أشلاء مسامير المتفجرات التي يوظّفها الفلسطينيون في عملياتهم، وأكثر ما كان يثير خشيته هو أن يُنسى على قارعة الطريق وأن لا ينتبه لهلاكه أحدٌ.
كان ايتان يستحضرُ ذلك الكابوس وهو يُحدّق في آلية إغلاق وفتح بوابة الحافلة، يجدُ نفسه يُحدّق في صورته الهشة على مرآة الباب الشفافة، ومن ثمّ يراقب ،بتمعُّنٍ، انغلاق الأجزاء المُشكّلة لباب الحافلة على نفسها، تاركةً فراغاً في وسطها يسمح بصعود الركاب على الحافلة.
ايتان يخافُ من نفسه، يهلعُ من فكرة أنه يخوضُ معارك دمويةٍ شبه يوميةٍ يلعبُ فيها القاضي والجلاد، ولكن دوماً من على مسافةٍ مريحةٍ بعض الشيء. الخوفُ الذي يمزّقه هو نشوة القوة التي تمنحُه إحساساً بأنه أحد الآلهة الإغريقية، يقبع على جبل اوليمبوس ويداعبُ الآلهة الأخرى، بينما ينظرُ من بعيدٍ إلى رعيّته القابعين أسفل الواد.
وبالرغم من أنه في معاركه تلك يقبعُ خلف شاشةٍ، إلا أنّ البُعد عن ساحة المعركة جعله يتخيّل المعارك في كلّ مكانٍ، حتّى وصلت به الأمور أن يخاف من صوته، وممّا ينتظره خلف كلِّ بابٍ يفتحه، من صيحات طفلٍ ينادي على أمه في الشارع، ومن رائحة الكاوتشوك المنتشرة بكثرةٍ في شوارع تل أبيب.
كان ايتان يشكي همهّ لأخيه، قائد وحدة اليمام فيقول له: "أتعلمُ يا أور؟ أنا أخاف في كثيرٍ من الأحيان من صوتي حين أتكلم، وعادةً ما أفضّل الجلوس بصمتٍ، وإذا ما مشيت في الطرقات أخاف من شيءٍ لا أعلمُ ماهيته، ولكنّني أفزع منه! أتلفّتُ حولي حتى أطمئنّ أن هذا الشيء لن يباغتني. أرتعبُ من صعود الأدراج إلى شُقّتي، وأستديرُ فجأةً حتى أطمئنّ أنّ هذا الشيء لن يلسعني، ولكنني لا أعرفُ ما الذي يخفيني فعلاً! أنا هكذا أخافُ من هذا الشيء ولكنّي أعلمُ تماماً أن لا وجود لأيّ شيءٍ يخفيني، وأنّ خوفي هذا يقبعُ في عقلي وفقط في عقلي. أدركتُ بعد حينٍ أنني لربّما أخافُ من شبح القتلى الذين لا أعرفهم ولم أدركهم؛ فأنا يا أور قتلتُ ولكنّي لم أضع نفسي أبداً في موقع الخطر، قتلتُ عبر زرٍّ أحمرَ صغيرٍ من مسافةٍ تتجاوز مئات الكيلومترات عن أرض المعركة".
يستمرُّ ايتان في حديثه، "أتعلم أنني أحسدك؟ فأنت تعيش المعركة بتفاصيلها وجُنونها، تُمضي غالب وقتك خلف صفوف العدو وتلتحمُ من مسافة الصفر. كم أبتغي أن أشعر بنشوة الأدرينالين في جسدي كما تشعر بها أنت تماماً، وأن أسمع صوت الرصاص وهو يُحلّقُ فوق رأسي، كم أتمنّى لو أنني كنتُ في غزة أو في تلال الضفة أو بين وديان الجنوب السحيقة معك".
لطالما تعجّب أور من أخيه الصغير والهزيل، ومن الاضطرابات النفسية التي يعاني منها، يسمع كلّ كلمةٍ يقولها ولكنه لا يُنصت لها بعمقٍ، وعندما ينهي ايتان حديثه يقول له بصوتٍ باردٍ "لا تُبالغ يا ايتان؛ فالمعارك ليست بالرومانسية التي تتصوّرها أنت".
يصل ايتان إلى المحطة الأقرب لموقع لقاء موشيه، الشارع مزدحمٌ بالمارّة، ما يزيدُ توتّره، يراقبُ تحرّكات من حوله بحذرٍ، ويمشي على هامش الرصيف بعيداً عن حركة المارة. يهمّ إلى قطع الشارع ويرى من بعيدٍ موشيه وهو ينتظره على إحدى طاولات المقهى في الباحة الخارجية.
يستعد ايتان لرفع يديه حتى يُنبّه موشيه بأنه قد وصل، وبينما ترتفعُ يداه عن خاصرته، يسمع صوت طلقاتٍ ناريةٍ تنطلقُ صوب المقهى يصحبها تهليلات "الله أكبر".
ينقضّ ايتان لاحتلال بقعةٍ تحت مقعدٍ خشبيٍّ كانت قد وضعته بلدية تل أبيب على القاطع الذي يفصل بين اتجاهات الشارع. يقبعُ هناك وحيداً واضعاً رأسه بين أرجله، بينما يضوجُ الشارع بصراخ المارة وبكاء الأطفال، يرتعشُ جسمه النحيل، ويُغلق عينيه حتى لا يراه أحد! تتحوّل الدقائق إلى ساعاتٍ وتتغيّر الأصوات حوله، تارةً أصوات سيارات الشرطة وتارةً أخرى زمامير سيارات الإسعاف.
يسمع صوت صُرصارٍ صغيرٍ كان قد انزوى تحت المقعد معه وانقلب على رأسه فغدا غير قادر على الحركة، يفتح عينيه قليلاً ويردفُ قائلاً:
"ليلي ماذا تفعلين هنا؟ الحمد الله أنكِ بخير...
أنا بخيرٍ يا ليلي لا تقلقي علي،
عودي إلى البيت... عودي إلى البيت!
أعدكِ أنني لن أترككِ وحيدةً بعد اليوم!"