استطلاع رأي

في يوم من الأيام وبينما كان محمد جالسا في البيت يلعب ويشاكس اخته الصغيرة دوى رنين الهاتف مقاطعا صيرورة الحياة في البيت وفارضا نفسه. لقد كان محمد يكره رنين الهاتف، فهو يحب الهدوء ويمقت الضجيج، ولكنه كان يبغض فكرة الهاتف أكثر. كان يقول دوما لامه عندما تطالبه بشراء هاتف نقال، "التلفون جاسوس يما، مش معقول اخلى جاسوس معي وين ما اروح".


سارع محمد بالتقاط الهاتف حتى يقطع ضجيجه المتصاعد، ومن سرعة الانطلاق عاد الألم لقدمه اليُسرى. لم تشفى قدمه كليا، بالرغم من التزامه الكامل ببرنامج إعادة التأهيل.
 
محمد: الو
المرأة: مرحبا انا بحكي معكم من شركة ميدل ايست للاستطلاعات حابين نسألك كم سؤال ازا بتسمح. 
محمد: من شركة شو؟ 
المرأة: ميدل ايست للاستطلاعات... عم نعمل استبيان عن أداء الحكومة في إدارة ازمة الجائحة وحابين نحكي معك. 
محمد: من وين اخدتو رقمنا؟ 
المرأة: عنا نظام مبنى على خوارزميات بطلع الأرقام بشكل عشوائي.
محمد: خوارزميات؟! 
محمد: طب عن شو بدك تسالي؟ 
المرأة: بدي اسالك ازا انت بتثق بأداء الحكومة؟ 
محمد: اه بثق كليا. 
المرأة: هل غيرت عاداتك اليومية بسبب الجائحة؟
محمد: اه غيرتها وملتزم بتعليمات الحكومة تماما.
المرأة: من ١ لعشرة قيم الأداء الإعلامي للحكومة في ظل الجائحة؟
محمد: تسعة من عشرة. 
المرأة: انت مع فرض الاغلاق الشامل
محمد: انا مع شو الحكومة بدها. 
المرأة: شكرا كتير الك ويعطيك العافية
محمد: الله يعافيكِ يا رب
اقفل محمد الهاتف ونظر إلى امه تعلو قسمات وجهه ابتسامة خبيثة.
 سارعت امه لسؤاله "مين اللي اتصل": 
"والله يما حسيتها وحدة لبنانية بدها تعرف ازا بثق بالحكومة وقلتلها بثق بالحكومة أبو الحكومة كمان." 
..
لم يكن محمد كثير الكلام او الانفعال، لكن روتين امه اليومي يجعله هائما ومحتدا قليلا، لم يحب موسيقى الصباح المُعتادة وهوس امه بفيروز ولكنه لم يصارحها ابدا بذلك، فقد كانت امه مصدر الامان والسكينة عنده، يعود اليها بعد كل معركة في حياته القصيرة فيجد في خفة قُلبها بلسما لجروحه. 

ذاع صيت محمد كونه التزم الصمت رغم صنوف التعذيب التي تعرض لها في أروقة غرف التحقيق المتسخة والضيقة بسجون رام الله واريحا وعوفر. الا أن محمد اضطر لأطلاق صرخة قوية بعد إن استفز صمته المطمئن محققا مغرورا لم يتحمل فشله المتكرر لاستخراج إي نوع من أنواع ردود الأفعال من محمد، وفي نوبة غضب تملكت المحقق تعمد فيها كسر قدم محمد اليُسرى من كاحلها موجها بعض اللكمات في خاصرته. ما منعه في تلك اللحظة عن سرد تاريخه النضالي القصير لم يكن حرصه على رفاقه، بالرغم إنه كان حريصاً، ما اجبره على السكوت هو حدة الألم التي نهشت عظمة كاحله. محمد التزم الصمت ولكنه كان صمتاً مختلفا، صمتاً حاقد وخائفا.
استقر محمد في سنته الثالثة من حياته الجامعية، على استراتيجية للتحايل على صوت احدى المذيعات الذي كان يصدح في كل صباح على احدى راديوهات رام الله الكُثر. كان يختار برنامج حصصه بحيث لا يتقاطع مع موعد برنامجها الصباحي. كان يمتعض من حاجة المذيعة إلى تغيير لهجتها الفلسطينية الخشنة إلى نعومة اللكنة اللبنانية، وبالتحديد إلى لهجة فتيات بيروت. لم يطق محمد سماع هذا الكم الهائل من الدلع المفتعل في أوائل ساعات الصباح. 

تأخر محمد عن التخرج، بالرغم من انه لم يعتد التأخير باي شيء اخر، كان أصدقائه يشبهونه بالطاقة الميكانيكية، فهو دقيق بكل شيء خاصة في مواعيده والوقت، وبما ينتقي من كلمات بحديثه. يستخدم اللفظ والاصطلاح الصحيح في المكان الصحيح، ولا يحب مرونة التعاطي مع الاصطلاحات التي نهشت من اللغة. لهذا تحديدا أحب سماع القرآن، لان وجد فيه ما لم يجد في إي كتاب اخر، التماثل المكتمل والمتكامل. ولكن القران كان الاستثناء، محمد كان يحب السكون والصمت. 

كان محمد كالساعة لا يوقفُه سوى نفاذ البطارية الداخلية وحاجته البيولوجية للنوم خاصة عندما ينهمك في إتمام أحد المشاريع المطلوبة لأحدى المساقات. وكان للتأخير وقعه عليه، فهو المتفوق في سنوات الدراسة جميعها وفي امتحان التوجيهي أيضا، لقد كان الأول على دفعته. أما ما كان يؤلمه وأحيانا يستهويه حين يطلق عليه مساعدي الأساتذة في جامعة بيرزيت مسمى "الختيار" في إشارة إلى كونه في "السنة السابعة" من حياته الجامعية.

لكن سبب تأخره يعفيه من اللوم فقد أمضى محمد سنوات تأخره ما بين معتقلين، أحدهما قريب والأخر يبعد قليلا عن الأول.
..

اغلق محمد الهاتف، وعاد سريع إلى مشاكسة اخته الصغيرة، وقف امامها يهم لاستفزازها واثارة غضبها، ولكنه تلعثم هذه المرة وتخبط قليلا. عاد في ذاكرته إلى الزنزانة وإلى نور الولاعة التي كان قد هربها دون دراية الحُراس... عاد إلى صورة الفرشة الصفراء المُحترقة...إلى تهديدات المحقق المنفعلة... إلى المرة الوحيدة التي فقد فيها عقله حتى اختلط عليه الحد الفاصل بين العقلانية والجنون. 

عاد إلى نوبة ضحكه الهستيرية وهو يرى الفرشة الصفراء تحترق. تذكر كل شيء دفعة واحدة، عاد إلى كل الألم، نعم حتى إلى مرارة سماع المحقق يتحدث العربية بطلاقة، ووجع نكوث الأصدقاء لعهد الصمت المقدس، والم الحب الذي لم يكن لأنه يغيب ويُغيب، والم حرق الثورة لأبنائها، ومن ثم طمئن نفسه قليلا: "لا بأس احياناً ببعض المرونة"!

الأكثر قراءة

"صوتك بنعس"

هنا أسجل اعترافي

سؤال الأحياء