لقد قبلت الدعوة، لنعد إلى الحرب….

لقد قبلت الدعوة، لنعد إلى الحرب….

قالها يونتان لموشيه وهو يطفئ سيجارته في دلو مليء بالرمل بجانب المرحاض. انطلق الاثنان نحو حجرتهما واتخذا موقعهما على مقعديهما الجلديين الأسودين. اعتمر موشيه سماعات الرأس بعد أن أسند عكازته على الحائط، ثبّت الميكروفون المتصل بالسماعة وقرّبه من فمه ليكون صوته مسموعاً.

دفع يونتان كرسيه ذو العجلات المنزلقة إلى الوراء قليلاً، ووضع لوحة المفاتيح على ركبتيه، ونظر إلى موشيه الذي كان يزيح مجسم طائرة الـ(اف 16) بعيداً عن لوحة المفاتيح التي أمسكها من طرفيها كأنها مقود طائرة، ضحك الاثنان كطفلين تحايلا على قوانين الكبار والتهما حبتي شوكولاتة بسرعة.

موشيه: كانت هذه هدية من أبي الذي مات في لبنان، لقد قتل وهو يقود النسخة التي طورتها شركة الصناعات الجوية. سقطت طائرته في جبال جنوب لبنان وعلى مرمى حجر من الحدود. 

أذهب دوماً إلى الشمال لأحدق بتفاصيل الجنوب جيداً، هادئة ومتزنة ويعلو صفائح تلالها شقائق النعمان، لوحة مستمرة من الأحراج الخضراء التي تعلو بفخامة حول جبالها الملتوية. فكرة واحدة رافقتني دوماً وأنا أحدق بلبنان، كيف لكل هذا الجمال أن يخبئ كم المصائب التي حلت بنا، فمهما حاولنا أن نحلق من فوق أرض المعركة، في الجنوب كانت المعركة دوماً تطيح بنا ارضاً. اتعلم لبنان جميل فقط من فوق وعن بعد!

انطلق صوت إنذار يفيد باكتشاف هدف محتمل، على الشاشة الكبيرة المكونة من عدة شاشات أضاءت على الخريطة علامة برتقالية بالمنطقة الشمالية الشرقية لمدينة غزة، على طرف الشاشة الأيسر أرقام تبيّن التاريخ والوقت الذي تتوالى أرقام ثوانيه:

1:29 بتوقيت أورشليم

يونتان: هذه سيارة رباعية الدفع، حولها أربعة أشخاص، هل يمكنك ان تدقق أكثر وأن توسع الصورة؟

موشيه: هل ترى الرجل قرب الحائط؟ هل يحمل شيئاً معدنياً في محيط خصره؟

يونتان: الصورة الحرارية يتخللها فراغ قرب صدره، كذلك الآخرون.

موشيه: هذا ما يفعلونه حتى لا تتعرف عليهم، يخبئون السلاح تحت الملابس. الأوغاد، لقد قُتل لنا اليوم 15 جندياً، هل أُحيّد الهدف؟

يونتان: لا أملك أوامر بتحييد السيارة ومن فيها، أظن أنهم يحملون الكلاشينكوف، أتدري؟ كان لدى أسرتي قطعتين حين كانوا في الاتحاد السوفييتي. هل تعلم أن هذا السلاح هو الأكثر انتشاراً في العالم وهو الخيار الأول لأعدائنا. كان جدي يخبرني بأن الحرب هي المشاع الأول للإبداع وهي البذرة التي في احتراقها تشع خضاراً، وقدرها أن تبني من ملحميات الدمار مسارات تصنع المستقبل.

الكلاشنكوف خرج من ملحمة لينينغراد ومن معادلة بندقية واحدة لكل ثلاثة من الحُمر في مواجهة ماكينات ألمانية أتت تدوس مسرعة لتخطئ قراءة الماضي، معتقدةً أن شتاء روسيا الأبيض لن يردها إلى الحضيض.

يخرج موشيه سيجارة ويضعها بفمه ولا يشعلها، فالتدخين ممنوع في هذا المكان، يشرب قليلاً من القهوة ويغمس بها حبة الشوكولاتة السوداء التي ناوله أياها يونتان بعد أن قضم منها النصف، محاذرا ألا تتسخ بزته العسكرية ببقعة قهوة أو شوكولاتة.

التفت موشيه ليونتان وفي عينيه أثر القلق، أتعلم أن الأدرينالين يصقل المقاتل ويصبغ أفعاله. فإن كانت الحرب هي لذة المواجهة وهي التجسيد الأكثر تعقيداً للقسوة بفجاجتها الغرائزية، الأدرينالين هو ما يمنحك القدرة على التفريق بين ما ينبغي أن تخشاه وما لا ينبغي أن تخشاه. هو المنظار الذي وهبنا الله إياه للنجاة.   

ولماذا تقلق؟!

أقلق من أن الأدرينالين هناك وليس هنا. أخشى أننا استبدلنا الأدرينالين بشاشة. وان التدفق الوحيد المستجد هنا هو محرك طائرات لا تخشى شيئاً.  

موشيه: أعتقد أني أرى بندقية أيضاً؟  لم أكن أشك في أصولك الروسية يوماً، أيها الأشقر القبيح.

يونتان ضاحكاً: لربما تكون بقعة حرارية من كثرة الجلوس، غزة ليست باردة مثل موسكو، ولا مثل بوخاريست (مشيراً إلى أصول موشيه الرومانية).  

موشيه: كم أتمنى لو كانت بندقية، فالسيارة تشكل هدفاً رائعاً

يونتان مستدركاً: تريث قليلاً، ذلك الذي نزل من السيارة، أليس طفلاً؟

موشيه: لا أدري ولكنه قصير القامة، ربما يكون مخرباً في السابعة عشر من عمره.  

يونتان: الأطفال الآن نائمون.  

موشيه ساخراً: إن لم يتربوا على النوم باكراً سنؤدبهم بطريقتنا، كم عدد الصواريخ التي نحتاجها للقضاء عليهم؟

يونتان: نحن بحاجة لدعم مروحي للتأكد من إصابة جميع الأهداف سيادة الطيّار.

انتبه موشيه لمناداة يونتان له بالطيار، فقد حلم موشيه منذ الصغر بأنه سيصبح طياراً وكان في طور الالتحاق بالأكاديمية الإسرائيلية للطيران المقامة على أراضي بئر السبع في النقب. تعتبر أكاديمية سلاح الطيران الأكثر هيبة بمقابل الأكاديميات الأخرى، يدرس فيها الطالب ثلاث سنوات ويتخرج منها برتبة ملازم ودرجة بكالوريوس من جامعة بن غوريون في بئر السبع.

تمتلك الأكاديمية أحد أعقد أنظمة القبول، فباب الانضمام ليس مفتوحاً لمن يرغب، بل يتم الاختيار في الثانوية من خلال معايير مختلفة تمت هندستها في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وضع الجنرال عازر وايزمان تلك المعايير، وهي تنقسم إلى أربعة أقسام: التفوق الدراسي، الانضباط العسكري، القدرة الجسدية والسلوك الاجتماعي.

بعد اختيار الطلاب المحتملين للأكاديمية يتم تجميعهم لستة أيام لخوض اختبارات مختلفة يتخللها تدريبات جسدية وذهنية على أثرها يتم دعوة ١٠٪ من الطلاب إلى الأكاديمية في بئر السبع. كاد موشيه أن يدخل الأكاديمية، وقد تمت دعوته بالفعل الى أسبوع "اللُّحمة" او "غيبوش" كما يسمى بالعبرية.

يكمل موشيه ليونتان قصته: قبل ذلك اليوم سرقت سيارة والدي منطلقاً إلى تل أبيب، كانت "شيري" تنتظرني خلف المدرسة، سلكت طريق رقم 6 كي لا أعلق بأزمة تل أبيب وأنا قادم، لهذا بنى مهندسونا هذا الطريق السريع، حتى لا نعلق بأزمة تل أبيب ونحن نسافر من الشمال إلى الجنوب، وحتى يكون تحرك قواتنا أسرع في حالات الطوارئ. 

لكنهم لم يأخذوا بالحسبان أحد الأعمدة التي اصطدمتُ بها في ذلك اليوم الأسود، بترت ساقي كما ترى، وبعد أن علمت "شيري" بما حدث لي، لم يرق لها أن يصبح حبيبها الطيار مبتور الساق لا يصلح لشيء. تلك القذرة ال …   

لم يطق يونتان صاحب الشخصية الانطوائية شتائم موشيه لحبيبته السابقة. يونتان شخص غير اجتماعي، ولدٌ أوسط لعائلة مكونة من أربعة أشخاص، عوّض نقص حب أهله له بألعاب الفيديو القتالية، أخوه الأكبر إيثان الذي يخدم في وحدة الشرطة الخاصة (اليمام) هو سبب بؤسه أمام عائلته، ذلك الشاب المقاتل الذي كلما عاد من الخدمة تقول الأم ليونتان: قم واستقبل أخاك  وتعلم كيف عليك أن تكون ذئباً في عالم الذئاب!

تجاهل يونتان كل الأفكار التي في رأسه، نظر إلى الصورة التي يضعها بجانب الشاشة، صورة أمه التي ترتدي فيها قبعة ابنها "إيثان" العسكرية، زمّ شفتيه وتابع إرسال الإشارة إلى المروحيات طلباً للدعم.

موشيه: انقل المعلومة إلى مركز قيادة العمليات حالاً.

يونتان: فعلت.

موشيه: طائرتان مروحيتان تحلقان بالقرب من الموقع الآن.

يونتان: يمكننا التخلص من السيارة ومن فيها وحولها بضربتين.

موشيه: سأضرب صاروخين، وتنقض المروحيات على من تبقى من المجموعة.

طيار المروحية: نحن في اتصال مباشر، هل تتلقاني؟

يونتان: نعم نسمعكم.

موشيه: سوف نقوم بالضربة الأولى لا تدعوا أحدا يخرج حياً بعدها، حاولوا تأكيد قتل كل الموجودين.

طيار المروحية: علم، بالتوفيق.

يونتان: لتبدأ الحفلة!

موشيه: رائع. أكثر من رائع! والآن!!! يضغط الزر الأحمر.

يونتان: السيارة تتطاير!

موشيه: تبقى واحد، القصير، يخرج من كتلة الدخان، يهرب باتجاه الجنوب!

طيار المروحية: نراه، نراه.

يونتان: الشاشة تنفجر مرة أخرى، لقد أصبح لحماً مشوياً، كلوا يا جياع غزة!


يمسك بصورة أمه ويوجهها نحو الشاشة: انظري أيتها الفاسقة! أنا أيضاً مقاتل! هههههه! أنا مقاتل!

تسكت كل خطوط الاتصالات مع أنها لاتزال مفتوحة ويستمع الجميع لصرخات يونتان دون أن يفهموا ماذا يقصد.    

يتفاجأ موشيه من كلام يونتان، ويخاطبه تغييراً للموضوع: ما زالت الدعوة قائمة ملازم يونتان، سأنتظرك لنحتسي شراباً في تل أبيب، انتهت مناوبتي الآن. 

يخرج موشيه من الغرفة بعد أن تحولت العلامة البرتقالية إلى خضراء وقد كتب عليها بالعبرية ما معناه "تم تحييده".

يشعل سيجارته وهو خارج، ويتمتم بالقول لنفسه: 

صديقي أيضاً مبتور يا "شيري".


الأكثر قراءة

"صوتك بنعس"

هنا أسجل اعترافي

سؤال الأحياء