لما لا!


لم أكن أدركُ أن في همسات الأرض حكاية عن دودة حفرت أنفاقها ودهاليزها بعد أن أكلت لحم آدمي عاش ودُفن في أحشائها. لم يتسنَ لي أبدا أن أتأمل صعودي إلى أعالي السماء مرتين، إحداهما على متن طائرة بوينغ تُسمم الهواء، وأخرى بينما كنت أغفو جاثيا على ركبتي ومنصتا لنكات المسلحين. لم أكن أعلم أن للسماء طبقات وأن الوصول إلى مداها النهائي عودة إلى الفراغ. هكذا أنا لم أكن اعرف أن للأفلام ما هو ظاهر فيها وما هو باطن فيها، وأن العبرة ليست فقط في سرد الحكاية ولكن بمزاج اللحظة التي نتلقى بها حركة الشاشة. ببساطة كنت دوماً منهمك في هذا وذاك ولم يتسنَ لي أن أهدأ قليلا، أن أتروى.
أدركت في غفلة أنني أحتضر، وبدا لي أن النهاية أقرب من البداية. كنت أحيانا أحدق في شريط حياتي، هذا الذي ندعوه ماضيا، أتأمل الفتى الذي حاول التمرد على كل القوالب. الطفل الذي لم يكتفِ باللغة لأنها ببساطة ليست إلا الكلمات التي تلحق بالأشياء... الطفل الذي كان يمشي في الأماكن المُخصصة لسير السيارات.. والطفل الذي كان يُصدر الأصوات حين تطلب المُعلمات الهدوء التام.
أذكر مرة أطلق عليّ أحد المثقفين لقب "صبياني" لأني اقترحت التبول على جدار أبيض شاهق بُني لفصل رأس الهرم عن بقيته، فأصبح رأسا مفصولا يُناطح الناس دفاعا عن نرجسية السياج وخوفه منهم.
لا أعلم لماذا يخاف الناس من الناس ولماذا يبنون الأسوار؟ كنت قد تخلفتُ عن إقفال سيارتي دون أن يمسها أحد لمدة أربع سنوات. تركتها مفتوحة لمن أراد سرقتها... ولم يأتِ السارق. لم أوصد الشباك الأمامي لسنة أو أكثر... ولم يأتِ السارق. ألم تستحق سيارتي الزرقاء القديمة حب غيري؟ فعلا، لا أدري لماذا يخاف الناس من الناس.
يُحيط الجدار الأبيض هذا سجن قديم منذ زمن الانجليز، وهو السور الأعلى في رام الله، معلق بين تداخل حدود مدينتين، لا يعلم أحد سوى مهندسي البلديات أين تبدأ البيرة وأين تنتهي رام الله. لم يستطع المثقف ذلك تمالك نفسه وتمالك وصلة طويلة من الخيارات التي ستؤدي به إلى حضن السلطة بثوب المُعارضة. كتب لي إهداءً على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، "إلى الزنديق...". تضحكني المفارقات في الإهداء، لأنه أرادها مذمة ولكني رأيت فيه القليل من الإجلال.. الزنديق أيضا متمرد. رفض المثقف التبول واستقر على أن التكتيك "الأصح" لمواجهة رأس الهرم وجداره الأبيض هو من خلال الاستقواء بسلطة أخرى.
في تلك الليلة التي لم يرافقني فيها المثقف، تبولت على غرور الجدار الأبيض. هكذا أنا صبياني حدّ النخاع، استمتع بالأمور التي تبدو للآخرين محض هراء، فهم أكبر من التفاهات وأكثر اتزاناً من الآفاق والمسارات المُرتجلة.
كان هناك حاجز غريب دوما يفصل بيني وبين العقلانيين، هؤلاء الذين يعتقدون أن في ثنايا المنطق حلولا لكل شيء، وأن العقل سيورثنا الطبيعة ويجعل من الإنسان سيد الأرضِ والسماوات. أو هؤلاء الذين يحسبون خطواتهم مسبقاً ظانين أنهم قادرين على التغلب على حكمة الكون، أو قادرين على تخطيط كل يوم من أيامهم حتى يأتي ميعادهم مع الموتِ. يجلسون معك ويعرضون عليك مخططهم للعشرين عاما القادمة، "الأخ سيفوز بجائرة نوبل للسلام قبل أن يصل الخمسين من العمر". يا ويلي ما أحمقك يا صديقي. وما أحمقني إذ جلست معك لاستمع لهذا الهراء وانصت حتى لا أجرح او أخدش مشاعرك! أسئلة كثيرة تدور في ذهني، أهمها لماذا تكترث لجائرة نرويجية أسس لها شعور رجل أبيض بخطيئة تصميم القنبلة.
لم أحب يوماً كثر اللغو، وإن أحببت اللغة. لم أرَ الفروقات بين العربِ والغربِ، لم أرَ النقطة! هكذا أنا لا أرى ما يراه الآخرون، وما يجعل من قلوبهم متحجرة وكأن قيمة الإنسان هي تحديداً قدرته على تقمص الحجر، بأن يتوحد مع موضوعه حتى الا-شعور. قد يكون تقمص شخصية الحجر مدخلنا نحو صمت مقدس وراء القضبان، ولكنه صمت مؤقت يخفي بركاناً من الاكتراث. فحتى الصمت صنوف.
لم أقبع ابداً في دهاليز الزمن مثقلا كما قبعتُ حين لم أعد أجد المعنى، حين تمردت على الحياة حتى جردتُها من قيمتها، ومن تسامي الكلمات ومن متعة الإيقاع واللحنِ. كنت أقول لنفسي: دعِ الشجرة تموت، واترك المياه تجري ولتأخذ ما تأخذه من قوالب، ولا تقحم نفسك في كل شيء، فالفضول قاتل وقد يجعلك هدفا لبالوعة تمتهن سحب من هم أكثرنا فضولا. أدركت حينها أننا نخاف من التحول، ومن تبدل الفصول، لأنه يذكرنا بأفولنا، بموعدنا مع الموت كنهاية وكراحة ولربما كبداية جديدة.
بالحقيقة في صمت الكون بطش، أتخيلُ الكون وهو يضحك علينا ساخرا من هواجسنا ومن أسئلتنا الكثيرة، ومن تأملاتنا وصلواتنا، ساخرا من أجوبتنا غير-المكتملة ومن ادعاءاتنا وسرديتانا الكبرى، ومن ذكرياتنا وأحداثنا وتواريخنا. يسخر من صرخات قبائل الحداثة وهي تفتك بالدمِ لأجل الحرية، ساخر من رجل مخابرات يملك من الغرور ما يجعله يرى أن "كل شيء تحت السيطرة". ساخر من أوهام رجل مهني بيروقراطي متزن ومتكتك يعتقد أنه إذا أستيقظ على خبر نيله منصبا في "وزارة الداخلية" سيترك خلفه آثر.
يبدو التمرد اليوم مختلفاً نجده في فانتزيا النصوص الثقافية، وبين حلقات الانيمي وفي قصة البرفسور العجيب الذي يخطط لاسقاط الراسمالية، وفي تضخم الثقافة وانفصالها المستمر والسحيق عن الممارسة. وكأن التمرد تحول إلى نسخة عن الأصل، وتلك تحولت إلى النسخة عن النسخة وهكذا دواليك، حتى انفصل المتمرد عن التمرد أو ببساطة تبدد، لأنه لم يبق في اختلاط وتعاقب النُسخ أية فسحة للأصل. يا ليتني ولدتُ في الزمنِ الغابر، حيث لا أبواب توصدُ درب المسافر، هناك حيثُ الزمن الجميل، لماذا أنتمي للأوان؟ هكذا أنا اشتياق المتمرد إلى التمرد وحنين التمرد للمتمرد.
اقترحت على نفسي الانزواء قليلاً، وأن أجعل من التمرد خيالا أعيشه في فانتزيا التأملات. قبعت وحيدا منزويا مخدراً، معلقاً بين اليقظة والحلم، أسكن الروح وانتزع من باطني نزوات الجسد. في هذا التمردُ شعورا لا نهائيا بالخفة، وكأني وجدت في الصمت دواء المتحدث، وفي الانسلاخ عن الغريزة دواء الجسد، وفي الصعودِ إلى رأس الجبل حيث السماء أقرب، وجدتُ الأفق مطاوعا للجسد وكأن الروح انتشلتني وجعلتني عصفورا أرى ما امامي من مدى وأحلق فوق جبال الجليل وأروي من سيل بصاقي أرضَ النقب. لطالما فهمت الحرية كأفق، فهمتها كانكسار الحواجز واختفائها في هواء السماء المتدفق... فهمتها كفضاء فارغ لا يحوي سوى صراخي المنفعل وجسدي الذي لا يتوقف، وقدرتي على اختلاق الدرب. فهمت في الحرية انفتاحاً أبدياً على الاحتمالات وانغلاقاً لثقل الخيارات. أو هكذا ظننتُ الحرية، لهذا ركبت الدراجة النارية، وتحايلتُ أحيانا على الشوارع المُعدة مسبقا، صاعدا التلال الصغيرة والجبال الحجرية الملتوية، لأني هكذا لا أخط مساري كما أراد مخططو المدن.
كم مرة سمعت من أحد المفسرين لأحوالنا أن هذا عصر الفرد، عصر الانهماك بتشييد الحدود بيننا وبين الجماعة، وعصر اجتراح بقعة صغيرة لنا تحمينا من ضوضاء المارة، وقسوة الاحكام على الغرباء. لا أخفي عليكم انني لم اشعر وحيدا حين تبولت على الجدار الأبيض، شعرت وكأني اتبول نيابة عن الملايين، لربما كنت أوهم نفسي، او أبالغ بتقدير أهمية فعل "صبياني" كهذا، ولكن تأكدتُ من صحة فعلي بعد مرور سيارة بيضاء تم تعتيم شبابيكها، توقفت فجأة وخرج منها عنصُرين. قلت لنفسي: أعلى كلِ فعل تمرد ان يصطدم مع سلطة ما، أعليه أن يتكثف بلقاء يجمع اجسادنا مع الهراوات، أو باختراق الرصاصِ أرجل المتظاهرين على أطراف المخيمات. أعلى كل فعل تمرد أن يلقى "بابوج" الامِ وهي تؤدب أولادها.
الصوت البهي اللذيذ يتكثف عندي بكلمة من حرفين "لا"، وكل ما أملك أمام هذه الفوضى هي قدرتي على ان أقول "لا". ألم يهزم الرسول خصومه بجمل اعتراضية، والم يُصلب المسيح لأنه بزق "لا" في وجه روما.
وانا احدق في نتوءات الحجرِ، وبينما كنت أتامل اذ ما كان هناك متسع او مساحة للهروب، تأكدتُ من أنه لا قيمة في القيمة الا بما اعطيها.
كنت مدمناً دوما على رائحة البنزين وقدرتها على تخديري، هكذا كان عقلي يرتاح قليلا، تخرجني رائحة البنزين من خمولي وتشبع شيئا غرائزيا حين تتسلل رائحة البنزين إلى انفي وتستقر في دماغي، تشعرني أني يقظ.
كانت رائحة البنزين تفوح وانا ملقىً في جيب فيه أربعة عناصر، أحدهم كان يغلي غضباً بعد أن بصقت في وجهه وهو يحاول ضربي من الخلف. عند أول ضربة، قمت بحركة دائرية سريعة، وضعت نفسي بمقابله وبزقت، وحذرته من تكرار فعله. توعد العنصر انه سينتقم مني، وفعلا حين غادرت هذا الاعتقال القصير وجدت أن السيارة السوداء التي اقتنيتها جُرحت بسكين أو مفتاح مدبب في وسط بابها الامامي.
انتقامه كان صبيانيا وخفيا ومتوجسا، ولكني ضحكت لأن انتقامه أعادني إلى أيام المدرسة حين كنت انتظر رنين الجرس، فأهب لكتابة شعار ما على حائط المدرسة. كنت انتقم من رتابة المدرسة وقتلها للخيال، من صرامة السكوت في الحصص، ومن اختلالات السلطة التي تُعطى لمدراءها تحديد إيقاع الزمنِ فيها.
لم أكن طالبا نجيبا ولم أواظب على دروسي، حتى أن أمي القلقة استطاعت اجتراح تحالفات مع العديد من أصدقائي المتفوقين وأجبرتهم على الاعتراف بلائحة الواجبات المنزلية التي عليّ القيام بها عند انتهاء كل يوم مدرسي. كنت أعود من المدرسة الملاصقة لبيتي لأجدها تقول لي عليك حفظ سورة الإسراء، وواجب رياضيات، وعليك أيضاً عرض صفي بحصة اللغة الإنجليزية حول دورة المياه. ما أن تغلق باب غرقتي، كنت أخرج كتابا لنعوم تشومسكي وأقرأ عن السياسة والعالم والامبراطورية، وعنّا نحن، ضحاياها.
وجدت نفسي في مكتب عليه خارطة الحدود البلدية لرام الله والبيرة وأمامي ضابط كبير يحاول استيعاب مدى عمق سفاهة اعتقال شاب لأنه تبول. كانت الخارطة فجة، تقول لي من منظور الضابط هذه حدود سلطته، بهذا المربع يمتلك سلطة إقرار من يعتقل ومن لا يعتقل، من يُعذب ومن لا يُعذب، من منظوره هذه هي جمهوريته، وهنا تنتهي حدود فلسطين.
يسألني عن عملي، وبعد أن أجبته بأني طالب في جامعة بيرزيت، ابتسم وعاد إلى ذكرياته في الجامعة نفسها، وحدثني عن مساق كان قد اخذه مع الراحل حسين برغوثي:
"أتعلم أن حسين برغوثي في أول حصة لي معه، خطَّ على اللوح بقلم أبيض سؤال "لماذا" وطلب من الطلاب إخراج ورقة وكتابة إجابة على هذا السؤال.
قلت: وماذا كتبتم؟
العديد من الطلاب تذمروا من السؤال، وقالو "لماذا ماذا؟" فأجابوا السؤال بسؤال. وآخرون كتبوا عن لماذا يدرسون في الجامعة أو لماذا فرض عليهم حضور هذا المساق، وآخرون أبقوا أوراقهم بيضاء ناصعة ولم يكتبوا، والغالبية لم تفهم مغزى السؤال من الأساس فسادَ جو المساق ارتباك عجيب.
أتعلم أن في نهاية تلك الحصة التفت حسين الى الطلاب وقال ببساطة: لما لا! وصارحني أن هذا جل ما يذكره عن المساق ذاك.
ترامينا أطراف الحديث العادية حتى سألني:
لماذا تبولت على الجدار الأبيض؟
قلت له: ولكنك يا حضرة الضابط أنت تعرفُ الإجابة.
قال لي، لا أخبريني..
قلت له: لما لا

الأكثر قراءة

"صوتك بنعس"

هنا أسجل اعترافي

سؤال الأحياء