المشاركات

عرض المشاركات من أغسطس, 2023

جنون ليلى!

في مقهى صغير، بجانب حديقة ضيقة وأشجار شاحبة، وجدت ليلى، حبيبتي السابقة. كانت الآن تجلس بجوار طفليها الذين يلعبون بشراسة وغضب، تاركين خلفهم أصواتاً تشبه الاحتجاج. كانوا يعترضون على القوانين التي تمنعهم من اقتطاف الورود المتناثرة في زوايا الحديقة، وعلى قلة الحركة التي يبديها الكبار. يجولون ويمرحون دون لهاث، مع أصوات النهي التي تلاحقهم.  "مرحبًا،" قلت لها، وهممت بالجلوس في زاوية المقهى، متظاهرًا بعدم اكتراثي لوجودها. يتحدث جيل اليوم بكثرة عن أهمية إغلاق الدوائر وعن الجرأة المطلوبة لمواجهة بقايا الألم مع الآخرين. يُصرخون أن الإنسان الأخلاقي هو الذي يُجيد إغلاق الدوائر. كان فارس دائمًا يقول لي: "أنا أعلم الحل! اذهب وتحدث وواجه." وكنت دومًا متشككًا في قدرة اللغة على حل العقد. لا أعلم إذا كان هناك دائرة مُغلَقة في حياتنا، فالدائرة تبدو أحيانًا كبيرة ولا تنتهي حتى بموت الجسد. إنها تنتهي فقط عندما يرفض جميع أحفادنا إنجاب المزيد منا، تنتهي فقط في تلك اللحظة التي ينقطع فيها حتى أثرك الجيني الممتد عبر الزمن، أو في تلك اللحظة التي تعود فيها جميع مخلفاتك على الأرض لتصبح غبار.  له...

العيش كفاقد

  سأخبركم بقصة قصيرة جداً، عن تلك المرة التي قال لي صديقٌ أنَّه يعيش كفاقدٍ... فاقدٌ لكلِّ رغبةٍ وطموحٍ وهدفٍ، وحتى فاقدٌ لأيِّ بصيصٍ صغيرٍ من الأمل. وفعلاً، رأيتُ بجانبه شبحًا يحاول الدخول مرَّةً أخرى لجسده، يحاولُ أن يتسلَّلَ إلى عقله، يحاولُ أن يتجسَّدَ كأكثر من ذكرى، يحاولُ العودةَ كوعيٍّ. رأيتُ هذا الشبح يحاولُ أن يستدرجه نحو المشي في دروب التأكيد على الحياة مرَّةً أخرى. ولكنَّ صديقي كانَ أدهى، وأعلنَ حربًا أهليةً على نفسه. صدمني صديقي، ليس لأنَّه يراوغُ بإتقان، وليس لأنَّه يراقصُ أحلامَه ويتركُها لوحدها على خشبةٍ متهتكةٍ... خشبةٍ كانت يوماً ما مسرحًا يضجُّ بالزائرين... صدمني ليس لأنَّ التخلِّي والخسارة والتفريط مواقفٌ غريبةٌ أو مرفوضةٌ، بل العكس تمامًا، نحنُ نحتاجُ كثيرًا لتلك القدرة والقوة على التخلِّي، لتلك القدرة على أن نقولَ كفى وأن نرحلَ. لا أخافُ من الذين يتخلَّون دون أن يتاجروا، ممن يقبعون في ذلك الحيز الرمادي، ممن يعلنون بصمتهم أنَّ القضية، أي قضيتنا، خاسرةٌ، ولكنَّهم يصمتون. ولكنَّ البعض حوَّلَ التخلِّي إلى تجارةٍ. وهناك من تخلى وهاجر هذه البقعة الضيقة من كوكب الأرض ...

الشكوى

قبل أكثر من عام، التقيت بصديق لم أره منذ مدة. فقد تزوج وأنجب طفلة يدمن مداعبتها، وأصبح يغازل الحياة المنزلية الهادئة. تفاجأ صديقي وتلبك عندما طرح عليّ سؤالًا من الأسئلة المعتادة في الحوارات القصيرة، قال لي: "كيف حالك؟" أجبته بأنني سعيد. واستدرك نفسه قليلاً، فقد كان يشكو حال البلاد قبل أن يسألني عن أحوالي، وجلس معي على طاولة في مقهى معد جيداً للكتابة والعمل، وهمس لي: "أنا أيضاً سعيد." لمستُ حينها بأنه في بلادنا، لا يمكن للشخص أن يفصح عن سعادته على الملأ، أن يعلنها دون تردد، وأن يصرخ بها دون أن يكون احتفاءه مرتبطًا بإنجاز ما، أو بأحد المناسبات الاجتماعية التي نمنحها جميعًا مكانة هامة ومبالغ فيها. أتحدث عن تلك الإنجازات التي ترمز أيضاً لإيقاع الحياة المتوقعة منّا، تلك البنى القدرية التي تحررنا من شكوى السؤال والضياع: ولادة وتوجيهي وجامعة وزواج وأولاد وأحفاد. فحتى عندما تعلن عن سعادة ما، عليك أن تخضعها لطقوس اجتماعية، أن ترتبط بمرحلة من مراحل الحياة وتقسيماتها المعدة مسبقاً. ولكن أن تكون سعيدًا هكذا دون رزنامة معدة مسبقاً، فهذه أقرب للخطيئة في بلادنا. يكره النَّاس الشكو...

صخرة ومرآة

  استيقظت لأجد أمامي صخرة ثقيلة، كنت قد خبأت تحتها الكثير من الأحلام، مثل حلمي بإتقان أربع لغات، أو القدرة على الكتابة بصوتٍ مسموع دون تلكؤ أو تردد ، دون هلع من أن يكون كل ما أكتبه رديء. تذكرت أن الذي قادني لتلك الصخرة كانت فراشة تضج بالألوان. أقنعتني حينها أن أخبئ أحلامي تحتها، وقالت لي وهي تشاكسني: "الصخرة هذه تحفظ الأسرار أكثر من رفيقٍ أقنعه المحقق أنه لوحده." أما الآن وقد كبرت قليلاً أو كثيراً، أصبحت هذه الصخرة أثقل وأكبر، تتثاءب مثلي في صباحات يوم الاثنين، وترقص مثلي عندما أختبئ من معمعة العالم وراء بابٍ صلب كان قد طعنه الجنود عدة طعنات. تتراقص الصخرة مثل سلحفاةٍ أتقنت دبكة الدلعونة، وتخجل من رقصتها مثل العروس التي تبذل الكثير من الجهد ألا تقع في حفل زفافها. صخرة تشبه كثيراً أيام الصيف الحار، تلك الأيام التي تذكرك بأنك كوب ماء متحرك، تلك التي تذكرك أن دموعك تنهمر من قدميك أيضًا. استيقظت لأجد أن الصخرة كانت تُحدث المرآة عني، تقول لها: جميعهم زائدون عن الحاجة، ولكن بالأخص هؤلاء الذين يخشون حفر ما تحتي!

القتال على شيء ما

  كل يوم، أجلس أمام جهاز الكتابة الخاص بي وأنظر إلى ما أنجزته حتى الآن من رسالة الدكتوراة. أسعى لإيجاد فكرة جديدة أو منظور مختلف، أو إعادة كتابة فكرة قديمة بأسلوب جديد. في بعض الأوقات، أشعر بأن نقص الأفكار هو العائق، وفي أوقات أخرى أشعر بأن الأفكار كثيرة جدًا، وتتدفق بشكل سريع حتى أنني أسبق نفسي في الكتابة. أحيانًا أكون كسلحفاة تائهة لا ترغب في إنهاء السباق، وأحيانًا أشعر أنني أقفز قفزات في الهواء دون أرضٍ أعود إليها أو كهفٍ أحتمي به. في الدكتوراه، عليك مواجهة أشباحك الخاصة، لا يمكنك أن تلوم العالم كثيرًا، ليس هناك "موعد تسليم صارم"، ليس هناك موعد يريحك من نفسك، نهاية تقول فيها لذاتك: "لولا هذا الموعد لكنت قد أبدعت حقًا". وفي هذا التقلب بين الكثرة والقلة، أشعر أحيانًا أنني فقدت النسق والمعنى من كل ما اكتبه. وأقول لنفسي دوماً: "اكتب، واكتب أكثر"، وأهرب للأمام. هناك الكثير من القلق عندما تقوم بمهمة طويلة الأمد مثل كتابة الدكتوراه، مثل الإحساس بأن هذا المشروع يجب أن ينتهي وأن وقته قد حان. عندما تبحث وتقابل وتقرأ وتخسر رهان الزمن مع جدولك المُسبّق، وتضع كل مشا...

واشنطن

  في عمق العاصمة الكبيرة المتناثرة، حيث تظلّل أشجار الزان الأمريكي العالية شوارعها، يشعر المارّون بأنهم يسيرون فوق ارصفة كانت يومًا مسرحًا لأراض رطبة ولرقصات وألحان شعوبها الأصلية. تلك الأراضي التي عانقت أمواج نهري الباتوميك والانكاوستيا، وتشبعت بمياههما. وعندما تلامس رطوبة أيار جسدك، تشعر وكأن النهرين يتدفقان من داخلك ويخرجان كسيل من العرق. أثناء تجولي بين الشوارع المتشابكة والواسعة، وبينما يملأ صدى أصوات النهرين أذني، أتأمل تلك الزوايا الحادة والشوارع الطويلة التي تبدو كأنها لا نهاية لها. يثير تصميم المدينة تساؤلات عديدة في نفسي، فهو متقن لدرجة أنه ممل. بينما في الوقت ذاته، تظهر أمامي آثار تاريخ منسي، مليء بأحداث تبدو كأن المدينة ترغب في دفنها ونسيانها. أثناء مشيي في شوارعها، يتجه تفكيري باستمرار نحو تل أبيب، وبالتحديد إلى المنطقة التي تربطها بيافا، حيث أجد تشابهًا صادقا في البنية والتصميم. هذا التشابه يشعرني برعب، تمامًا كما في تلك اللحظات التي تظن فيها أنك استيقظت من حلم، فقط لتكتشف أنك ما زلت نائمًا، ومن ثم تستفيق فعليًا. واشنطن نسجها المهندسون بعناية فائقة، حيث يكشف كل شارع و...